قال: وأيما رجل لحق الإمام راكعاً، كبر تكبيرة، ونوى بها الدخول في الصلاة، ثم كبر أخرى وركع، ثم صلى معه باقي صلاته يقوم بقيامه، ويقعد بقعوده، ولا يخالفه في شيء من ذلك، فإذا سلم الإمام، قام فأتم لنفسه ما بقي، واعتد بالركعة التي لحق الإمام فيها راكعاً.
نص في (المنتخب)(1) على أن من لحق الإمام راكعاً يكبر تكبيرتين، ونص على سائر ما ذكرناه في (الأحكام)(2)، وهذه الجملة مما لا أحفظ فيه خلافاً، والتكبيرة الأولى فرض، وهي تكبيرة الافتتاح، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( تحريمها التكبير )) والتكبيرة الثانية سنة، وهي تكبيرة الركوع.
وقلنا: إنَّه يتبع الإمام في قيامه وقعوده، ولا يخالفه في شيء من ذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنما جعل الإمام ليؤتمَّ به )) . وإنه يتم لنفسه باقي صلاته إذا سلم الإمام، ويعتد بالركعة التي لحق الإمام فيها راكعاً مما لا خلاف فيه، ولأن الإمام يحمل قراءة المأموم في بعض الأحوال، فجاز أن يحمل قراءته في هذا الموضع؛ ولأن القراءة عندنا فرض في ركعة واحدة، فإذا قرأ في ركعة أخرى، أجزأه، وصح أن يعتد بالركعة التي لحق الإمام فيها راكعاً.
مسألة: [في الرجل يدرك الإمام ساجداً]
قال: وإن لحقه ساجداً، سجد معه استحباباً، فإذا قام الإمام، قام، وابتدأ الصلاة، ويجعل ما لحق مع الإمام أول صلاته، وكذلك النساء إذا لحقن الإمام يفعلن كذلك.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام)(3).
__________
(1) انظر المنتخب 43.
(2) انظر الأحكام 1/115.
(3) انظر الأحكام 1/115 ـ 117.(17/12)


ووجه قولنا: إنَّه يسجد استحباباً: ما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن رجل من أهل المدينة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه سمع خفق نعل، وهو يصلي، وهو ساجد، فلما فرغ من صلاته، قال: (( من هذا الذي سمعت خفق نعليه؟ )). قال: أنا يا رسول الله، قال: (( فما صنعت؟ )). قال: وجدتك ساجداً فسجدت، قال: (( هكذا فاصنعوا، ولا تعتدوا بها، ومن وجدني قائماً، أو راكعاً، أو ساجداً، فليكن معي على حالتي التي أنا عليها )).
فلما قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( هكذا فاصنعوا، ولا تعتدوا بها ))، علم أنها استحباب، إذ هي غير معدودة في جملة الفرض، وإذا ثبت أن تلك السجدة غير معدودة من جملة الفرض، صح ما قلناه: إنَّه يبتدئ الصلاة؛ لأنا قد بينا فيما مضى إنه لا يجوز أن يفعل في الصلاة المكتوبة سجدة زائدة على سبيل العمد، واستقصينا الكلام فيه.
وقلنا: إنَّه يجعل ما لحق مع الإمام أول صلاته لما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: أخبرنا عيسى بن/179/ محمد العلوي، حدثنا الحسين بن الحكم الجيزي(1)، حدثنا الحسن بن الحسين العرني، عن علي بن القاسم الكندي، عن ابن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، قال: "إذا سبق أحدكم الإمام بشيء، فليجعل ما يدرك مع الإمام أول صلاته، وليقرأ فيما بينه وبين نفسه، وإن لم يمكنه قرأ فيما يقضي".
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( فما أدركت فصل، وما فاتك فاقض ))، وقد علمنا أن الذي فاته مع الإمام هو أول صلاته، فيجب أن يكون هو المقضي، وإذا وجب أن يكون هو المقضي، صح أن ما يدركه هو ما فيه الإمام من الثانية أو الثالثة أو الرابعة؟
__________
(1) الحبري، بمهملتين بينهما موحدة، ذكره في المؤتلف والمختلف، انتهى طبقات] غير موجود. في (أ) و(ب): الجيزي، أثبته.(17/13)


قيل له: معناه ما أدركت وقته، فصل، وما فات وقته، فاقض؛ لأن الإنسان إنما يدرك الوقت، دون المفعول فيه في الحقيقة؛ لأن الإنسان لا يقال: أدرك فعل نفسه، وإنما يقال أدرك الوقت، والوقت فعل غيره.
فإن قيل: هذا مجاز؛ لأن الوقت ليس في اللفظ.
قيل له: لا يمتنع من ذلك، إلاَّ أن الحديث لا بد من أن يدخله المجاز، على أي وجه حُمل؛ لأنَّه إن حمل على أن معناه ما أدركت من صلاة الإمام، لم يجز أن يقول صَلِّهِ؛ لأنَّه يصلي صلاة نفسه دون صلاة الإمام، والأمر بفعل الغير محال، وإن حمل على معناه ما أدركت من صلاتك مع الإمام، كان ـ أيضاً ـ فيه مجاز؛ لأنَّه لا يقال: إن الإنسان أدرك فعل نفسه إلاَّ على سبيل التوسع، ويجوز أن يكون المراد به ما أدركت مع الإمام، فصل معه، وما لم تدركه، فصل لنفسك، ويكون معنى اقض أفعل، كما قال اللّه سبحانه: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَواتٍ فِيْ يَوْمَيْنِ}[فصلت:12]، أي فعلهن، فلا يجب على هذا أن يكون بعد فراغ الإمام قاضياً.
وأيضاً لا خلاف أن المنفرد لو ابتدأ الركعة الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، لم تصح صلاته، فكذلك المؤتم، والعلة أنَّه ابتدأ الصلاة بغير أولها.
فإن قيل: كما لا يأتم من يصلي الظهر بمن يصلي العصر، فكذلك لا يأتم من يصلي الركعة الأولى بمن يصلي الركعة الثانية، أو الثالثة؟(17/14)


قيل له: ليس تعلق الظهر بالعصر تعلق الركعات بعضها ببعض، ألا ترى أنَّه يتلافى في بعض الركعات ما يفوت في بعضها، كنحو القراءة عندنا، والسجدة عند بعض الناس، ولا يصح أن يفرَّق بينهما، وليس كذلك حكم الظهر مع العصر؛ لأنَّه لا يتلافى في العصر ما فات في الظهر، ولأنهما صلاتان متميزتان بالوقت، ولا يجوز أن يفعلا ثماناً معاً، بل يجب أن يفرق بينهما، على أن ذلك كما لم يجز لو شرع من عليه الظهر، ولم يخف فوات العصر أن يصلي العصر للجماعة، بل يجب عليه أن يرفض الجماعة، ويصلي الظهر، فبان بذلك أن حكم الظهر والعصر ليس حكم الركعات إذا كانت الصلاة واحدة، على أنا لو جعلناه حجة لنا، كان أولى، وذلك أنَّه لا يجوز أن يقدم العصر على الظهر إذا لم يخف فوات العصر إتباعاً للإمام، فكذلك لا يقدم الثانية على الأولى إتباعاً للإمام، والعلة أنَّه يقدم ما يجب تأخيره من الصلاة، مع أن الوقت وقت لهما(1)، وهذا هو مذهب محمد بن علي بن الحسين، وأحمد بن عيسى، والناصر عليهم السلام.
فأما(2) النساء، فلا خلاف في أن حكمهن في جميع ما ذكرنا حكم الرجال.
مسألة: [في الرجلين ينوي كل منهما الإمام أو الائتمام]
قال: وإذا اصطف رجلان جاهلان بمقام الإمام، فنوى كل واحد منهما أنَّه إمام لصاحبه، فصلاتهما تامة، وإن نوى كل واحد منهما أنه مؤتم بصاحبه، بطلت صلاتهما.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(3).
والوجه في ذلك: أن كل واحد منهما إذا نوى أنَّه إمام صاحبه، كان قد صلى لنفسه، مع أنَّه نوى الإمامة، فإذا لم يأتم به المؤتم، كانت صلاته صلاة المنفرد، فوجب أن تصح.
فإذا نوى كل واحد منهما الإتمام بصاحبه، لم يحمل أحدهما عن صاحبه شيئاً، فيكون كل واحد منهما قد ائتم بمن لا يكون إماماً، فيجرى مجرى الرجل يصلي خلف المرأة، أو القارئ يصلي خلف الأمي، فوجب أن تبطل صلاة كل واحد منهما.
__________
(1) في (أ): لهما معاً.
(2) في (أ): وأما.
(3) انظر الأحكام 1/145، 146.(17/15)


مسألة: [في الفتح على الإمام]
قال: ولا بأس للمؤتم أن يفتح على الإمام إذا اشتكلت عليه القراءة.
نص عليه في (كتاب الأحكام)(1)، وروي فيه عن جده القاسم عليه السلام، وذكر أنَّه مروي عن أمير المؤمنين عليه السلام.
والوجه فيه: قول اللّه تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقَوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعدْوَان}[المائدة:2]، وليس لأحد أن يقول: إني لا أسلم إن فتح المؤتم من البر؛ لأنه لا خلاف أن قراءة الإمام من البر، والتعاون عليها يكون من البر.
ويستدل عليها ـ أيضاً ـ بقوله عزَّ وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}[البقرة:238]، وذلك من المحافظة عليها.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: "إذا استطعمكم(2)، الإمام فأطعموه". وأيضاً ليس فتح المؤتم على الإمام أكثر من قراءة الآية التي أشكلت عليه، وقراءة القرآن لا تقدح في الصلاة، وليس ذلك منازعة المؤتم للإمام القرآن التي نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها بقوله: (( مالي أنازع في القرآن ))؛ لأن المؤتم لا يفعل ذلك إلاَّ بعدها يلتبس على الإمام، ويؤديه إلى الوقوف عن القراءة.
مسألة: [في القراءة خلف الإمام]
قال: وعلى المؤتم أن يقرأ خلف الإمام إذا لم يسمع قراءة الإمام، ولا يقرأ إذا سمعها.
نص في (الأحكام)(3) على أنه لا يقرأ خلف الإمام فيما جهر فيه الإمام، ويقرأ فيما لم يجهر فيه، ورواه عن القاسم عليه السلام.
وروى محمد بن منصور القراءة فيما خافَت فيه الإمام، عن عبد الله بن موسى بن عبد الله، وعن أحمد بن عيسى عليهم السلام.
وذكر عن أبي طاهر العلوي: كراهة القراءة خلف الإمام فيما جهر، والقراءة خلفه فيما خافت.
__________
(1) انظر الأحكام 1/136.
(2) في (ب): استطعمك.
(3) انظر الأحكام 1/107.(17/16)

73 / 138
ع
En
A+
A-