قسم منه يفعل للصلاة، كنحو منع الثوب أن يسقط عن العورة، أو عن موضع يستحب فيه ستره، أو كدرء المار بين يديه، أو عد الركعات، أو تسوية موضع السجود، ونحو ذلك، فهي ما يجوز للرجل أن يفعله، وربما وجب عليه.
وقسم مما يفعل لا لذلك: نحو أن يضع يده على فمه عند التثاؤب، أو يمس لحيته، أو نحو ذلك، فهو مما يكره للمصلي أن يفعله.
وقد أختلف في الفصل بين كثير الأفعال وقليلها، مع الإجماع بأن(1) الكثير يفسد، وأن القليل لا يفسد، فذهب أصحابنا إلى أن القليل هو ما أجمع على أنَّه قليل، وأن ما عداه في حكم الكثير؛ لأن الأصل في الصلاة تحريم الأفعال والأقوال، فلا يستباح فيها شيء من الأفعال والأقوال، إلاَّ بدليل، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم )). وقوله: (( اسكنوا في الصلاة ))، ولأن الاحتياط يقتضي ذلك؛ ولأنه لا دليل على الفرق بينهما، إلاَّ ما ذكرناه.
فإذا ثبت ذلك، ثبت أن قتل الحية والعقرب، وإرشاد الضال ونحو ذلك مما يفسد الصلاة، إذ الأولى على ما بيناه أن تكون تلك الأفعال في قبيل الكثير دون اليسير، فأما تسوية الرداء فلا خلاف في أنها من الأفعال اليسيرة، فإذا فعلها لئلا تنكشف عورته، أو موضع يستحب ستره من جسده لم تكره، وإذا فعلها لغير ما ذكرنا كرهت، ولذلك كره أن يضع يده على فمه عند التثاؤب، وأن يسوي الحصى بين يديه، إلاَّ أن يخاف أن لا يستوي موضع سجوده.
والأصل في كراهة ذلك: ما روي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته، فقال: (( أما هذا فلو خشع قلبه، لخشعت جوارحه )) وقد مضى اسناده في الكتاب، وما قدمناه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( مثنى مثنى بخشوع وتسكن ))، ونهيه أن ينفخ في الشراب، وأن ينفخ بين يديه في القبلة، وقوله: (( لا يمسح الحصى إلاَّ مرة واحدة، ولإن تصبر عنه خير لك من مائة ناقة، كلها سود الحدق )).
__________
(1) ـ في (أ) و(ب): أن.(16/50)


مسألة [في جواز حمل الدراهم ونحوها أثناء الصلاة]
قال: ولا بأس أن يصلي الرجل وفي لبته دراهم، أو دنانير، أو قوارير، أو حجارة، أو غير ذلك إذا كان نقياً.
وهو منصوص عليه في (المنتخب)(1).
والأصل فيه أن المصلي لم يؤخذ عليه إماطة شيء عن نفسه، إلاَّ ما كان مغصوباً أو نجساً، وما ذكرناه ليس يدخل في واحد منهما، فوجب أن لا يكره أن يكون مع المصلي، وهو مما لا أحفظ فيه خلافاً بين الأمة.
مسألة [في وجوب استئناف الصلاة عند نقض الطهارة]
قال: وإذا حدث في الصلاة أمر من الأمور ينتقض به الطهور، بطلت صلاته.
وهو منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(2).
والأصل فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا صلاة إلاَّ بطهور ))، وقوله: (( لا صلاة لمن لا وضوء له ))، وقد أثبتنا الحديثين في مسألة التسمية على الوضوء، فنفى صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة إلاَّ بالطهور، فمن فسد طهوره يجب أن تكون صلاته فاسدة.
وليس لأحد أن يقول: إن ذلك لا يوجب نفي الصلاة؛ لأنا قد بينا ما نذهب إليه في مثل ذلك في مسألة قراءة فاتحة الكتاب، وأوضحنا أن ذلك إذا ورد في الأسماء الشرعية يقتضي نفي الأصل.
وروى ابن ضميرة، عن أبيه، عن علي عليه السلام: من رعف وهو في صلاته فلينصرف، وليتوضأ، وليستأنف الصلاة.
وأيضاً هو(3) قياس من أحدث متعمداً، إذ لا خلاف في أنه تبطل صلاته، والمعنى أنَّه أحدث في صلاته، وأيضاً هو قياس من تعرى في الصلاة، أو نجس ثوبه، في أنه تفسد صلاته، ولا يجوز البناء عليها، والمعنى أنه قد حصل على حالة لا يجوز له معها الابتداء بالصلاة، فيجب أن لا يجوز له البناء.
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص47.
(2) ـ انظر المنتخب ص47.
(3) ـ في (أ): فهو.(16/51)


وذكر أبو بكر الرازي في شرحه (مختصر الطحاوي): أن القياس يوجب فساد صلاته، وأنه لا يجوز له البناء، غير أنهم اتبعوا فيه الأثر، وتركوا النظر، والأثر هو: ما رواه ابن جريج، عن أبيه، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( من قاء في صلاته، فلينصرف، وليتوضأ، وليبن على صلاته ما لم يتكلم )).
يقال لهم: هذا حديث ضعفه أصحاب الحديث، وإن صح فمعناه: المنع من الكلام في الصلاة، والنسخ له إذ كان مباحاً في الصلاة في أول الإسلام، فكأنه ابتداء قوله: وليبن على صلاته ما لم يتكلم، وأراد أن الاستمرار في الصلاة إنما يصح لمن لم يتكلم فيها إبانة عن إفساد الكلام للصلاة، وهذا كلام مستقل بنفسه غير محمول على قوله: (( من قاء في صلاته فلينصرف وليتوضأ )).
فإن قيل: كيف اعتمدتم هذا الحديث في إيجاب الطهور على من قاء، مع قولكم إنَّه قد استضعف؟
قيل له: نحن شيدنا به سائر الأدلة التي ذكرناها في نقض الطهارة بالقيء، وسيلان الدم من الأخبار والمقايسات الصحيحة، وغير ممتنع في الضعيف أن يذكر تشييداً للقوي، واعتماده للبناء على الصلاة لا يجوز مع ضعفه إذ هو العمدة عندهم، وهو ـ أيضاً ـ عندهم مما يقتضي القياس خلافه.
فإن قيل: روي عن ابن عباس أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا رعف في صلاته، توضأ وبنى على ما مضى من صلاته؟
قيل له: يحتمل أن يكون أراد إذا كان دم الرعاف بحيث لا يسيل، فأراد بقوله: توضأ غسل يده من يسير ما أصابه، وذلك لا ينقض الصلاة، ولا الطهارة، ويكون معنى توضأ: غسل يده بإمساسها إياه، ويكون غسل اليد منه استحباباً، ويجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك وسيلان الدم حينئذ غير ناقض للطهارة، وحيث كانت الأفعال في الصلاة مباحة، وهذا أولى، ألا ترى أن حديث ابن أبي مليكة، عن عائشة يقتضي الأمرين جميعاً على إيجاب الطهارة من القيء والرعاف، ونسخ الكلام في الصلاة.(16/52)


مسألة [ في بطلان صلاة من عمل فيها ما ليس منها ]
قال: وكذلك تبطل الصلاة إذا عملت فيها شيئاً ليس من المحافظة عليها من لدن تحريمها إلى تحليلها.
قال القاسم عليه السلام: لا بأس للرجل أن يصلي وقد شد وسطه بخيط أو غيره.
ما ذكرناه من بطلان صلاة من عمل فيها ما ليس منها منصوص عليه في (المنتخب)(1).
وقد بينا تفصيل مذهب أصحابنا في ذلك قبل هذه المسألة، ودللنا على صحة ما اخترناه بما يغني عن الإعادة.
وأما ما حكيناه عن القاسم عليه السلام، فهو منصوص عليه في (مسائل عبدالله بن الحسن)، عنه.
ووجه ما ذكرناه فيها فهو أبلغ في ستر العورة، وأمنع للثياب من الانتشار.
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص48.(16/53)


باب القول في إمامة الصلاة
[مسألة: في الصلاة خلف الأعمى والبدوي وولد الزنى والعبد]
لا بأس بالصلاة خلف كل مسلم من رقيق، أو ولد زنا، أو أعمى، أو بدوي(1) إذا علم ما يحتاج إليه في الصلاة، ولا بأس بصلاة المطلق خلف المقيد.
وذلك كله منصوص عليه في (المنتخب)(2).
والوجه فيه: ما روي عن ابن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القرآن سواء، فأعلمهم بالسنة )). ولم يراع الحرية، ولا المولد، ولا صحة البصر، فبان أنَّه لا معتبر بها.
وروي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم استخلف ابن أم مكتوم على الصلاة بالمدينة وهو أعمى.
وروى محمد بن منصور، عن أبي كريب، عن يحيى بن أبي زائدة، عن داود بن أبي هند، عن أبي بصرة، عن أبي سعيد، قال: دعوت، أناساً من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى منزلي، فمنهم حذيفة، وأبو ذر، وابن مسعود، فحضرت الصلاة، فصليت بهم وأنا عبد، فقدموني.
وذلك يجري مجرى الإجماع منهم، إذ قد روي عن نفر، ولم يرو خلافه عن أحد، ولا معتبر في التقديم في الصلاة بالأنساب، فوجب أن لا يعتبر بالمولد، إذ المولد إنما يراد للنسب، على أن كونه ولد زنا لا يؤثر في شيء من دينه وعبادته، قال اللّه عزَّ من قائل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، فوجب أن يكون هو وغيره سواء، فيما يتعلق بالعبادة.
وكذلك العمى لا يقدح في شيء من دينه، فوجب أن يكون الأعمى في ذلك كالبصير.
وقال في (المنتخب): والأعمى فليس يشغله بصره عن الصلاة فهو أولى، وهو كما قال قريب؛ لأنَّه قد كفي الاشتغال بحفظ البصر وغضه، فيكون أشد تمكيناً من التوفر على ما سواه.
__________
(1) في (أ): أو بدوي أو أعمى.
(2) لم يذكر في المنتخب إلا الأعمى، والصلاة خلف المقيد، انظر صفحة 56. وذكر الباقي في الأحكام 1/111.(17/1)

70 / 138
ع
En
A+
A-