ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا ابن نافع، عن مالك، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن كبشة بنت كعب أنها صبّت لأبي قتادة ماءً يتوضأ به، فجاءت هرة تشرب، فأصغى لها الإناء، فجعلت أنظر، فقال: يا بنت أخي، أتعجبين؟ قال سول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنها ليست بنجسة، هي من الطوافين عليكم والطوافات )).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا علي بن مِعبَد، قال: حدثنا خالد بن عمرو الخراساني، قال: حدثنا صالح بن حسان، قال: حدثنا عروة بن الزبير، عن عائشة، (( أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصغي الإناء للهر ويتوضأ بفضله ))(1).
وروى داود بن الحصين، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ فقال: (( نعم، وبما أفضلت السباع ))، وقد قيل إن هذا الخبر مرسل؛ لأن داود لم يلق جابراً، وهذا لا معنى له، لأنا نرى قبول المراسيل والعمل بها، والمخالف لنا في هذا أبو حنيفة وأصحابه، وهم يرون قبول المراسيل، على أنَّه قد رواه إبراهيم بن أبي يحيى، عن داود بن الحصين، عن أبيه، عن جابر، فقد ثبت بهذه الأخبار طهارة سؤر الهر والحمار وسائر السباع.
وقد قيل في الخبر الوارد في سؤر الحمار إن ذلك كان قبل تحريم لحمه، وذلك فاسد من وجوه:
أحدهما: أنَّه يوجب نسخ الخبر من غير أمر يوجبه ويقتضيه، وذلك لا معنى له.
والثاني: أن اعتبار سؤر الشيء بلحمه في هذا الباب لا معنى له؛ إذ لم يثبت ذلك، بل ثبت خلافه، ألا ترى أن الهر غير مأكول، وقد ثبت طهارة سؤره، والمسلم لا خلاف في طهارة سؤره، وإن كان لحمه غير مأكول.
__________
(1) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/19، عن علي بن معبد، به. إلا أنه قال: صالح بن حيان.(2/25)


والثالث: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( وبما أفضلت السباع )) ولم يرو أن السباع كانت لحومها مأكولة، ثم حرمت، فسقط تأويلهم.
وقد استدل أصحاب أبي حنيفة لنجاسة سؤر السباع بما رويناه عن ابن عمر، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سئل، عن الماء وما ينوبه من السباع، قال: (( إذا بلغ الماء قلتين فليس يحمل الخبث ))، وهذا من العجب فإن هذا الحديث لما استدل به من أوجب التحديد بقلتين ردوه، وقالوا: إنَّه مضطرب السند والمتن، وذلك يدل على أنه غير مضبوط، وتكلموا عليه كلاماً طويلاً، فكيف جاز لهم أن يستدلوا به لتنجيس سؤر السباع؟ على أن السائل سأل عن الماء الذي تنوبه السباع، والظاهر من حال الماء الذي هذه سبيله أن السباع تبول فيه وتروث، وذلك ينجس الماء لا محالة، وليس فيه ذكر السؤر، ولا قصر السؤال عليه، بل لم يذكره السائل بوجه.
فإن قيل: ليس في الحديث أن السباع تبول فيه وتروث، بل فيه أنها تنوب، والتنجيس يتعلق بذلك القدر.
قيل له: نحن إذا بينا احتمال ما قلنا، كفانا في تأويل الحديث؛ إذ ليس على المتأول أكثر من ذلك، ونرجع إلى الحديث الذي روي عن جابر أنَّه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( وبما أفضلت السباع ))، وإلى ما رويناه في الهر.
مع ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: أخبرنا أبو أسامه، عن عيسى بن المسيب، عن أبي زرعه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الهر سبع )).(2/26)


فإن استدلوا بما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثني أبونعيم ضرار بن صرد، عن عمرو بن هشام(1)، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كنت ردف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على حمار يقال له يعفور، فأصاب ثوبي من عرقه، فأمرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغسله.
فإذا ثبت نجاسة عَرقه، ثبت نجاسة سؤره.
قيل لهم: ليس يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان علم أن ذلك الحمار أصابه من الروث أو البول أو غيرهما ما أوجب تنجيسه، فلما أصاب ابن عباس من عرقه مع ما علم من حاله، أمره بغسله، وهذا فعل لا يمكن ادعاء العموم فيه، وخبرنا جواب عن السؤال فهو أولى، على أن المعهود من لدن الصحابة إلى يوم الناس هذا أن المسلمين يركبون الخيل والبغال والحمير ولا يتوقون من أعراقها، فصار تطهير أعراقها إجماعاً منهم، وهذا من أوكد ما يستدل به في هذا الباب.
فإن قيل: روى قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين )) شك قرة بن خالد، ففي هذا تنجيس سؤره(2).
قيل له: هذا الحديث قد روي عن محمد بن سيرين موقوفاً على أبي هريرة:
أخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة(3)، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا هشام بن حسان، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: (( سؤر الهر يهراق ويغسل الإناء مرة أو مرتين ))(4).
__________
(1) في الحاشية: عمرو بن هشيم. وقال: نسخة.
(2) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/19، عن أبي بكرة، عن عاصم، عن قرة، به.
(3) في (أ) و(ب): أبو بكر. وهو غلط والصواب ما أثبتناه، وهو بكار بن قتيبة.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/20، عن أبي بكر، به.(2/27)


وأخبرنا أبو بكر، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد اللّه الهروي، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن يحيى بن عتيق، عن محمد بن سيرين، أنه كان إذا حدث عن أبي هريرة، فقيل له: عن النبي؟ قال: كل حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم(1)‍..
ففي هذا أن ابن سيرين كان إذا سمع أبا هريرة يحدث كان يرى أنَّه عن النبي، فكان يستجيز رفعه، فلا يمتنع أن يكون سمع أبا هريرة يقول ما قال في سؤر الهر، فرفعه هو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرأي الذي رآه، ألا ترى أنَّه ـ أعني ابن سيرين ـ قد رواه موقوفاً، وذلك الرأي بعيد؛ لأنَّه لا يمتنع أن يرى أبو هريرة رأياً فيفتي به ويحدث به عن نفسه، فإذا كان ابن سيرين يظن أن جميع ذلك يجب أن يكون مرفوعاً وجب ضعف ما يرويه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبمثله لا يعترض على الأخبار التي قدمناها.
على أن هذا الخبر يجوز أن يكون منسوخاً إن صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ألا ترى إلى تعجب كبشة حين أصغى له الإناء أبو قتادة؟
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن الحجاج، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن كعب بن عبد الرحمن، عن جده أبي قتادة، قال: رأيته يتوضأ، فجاء الهر فأصغى له حتى شرب من الإناء(2).
فقلت: يا أبتاه، لم تفعل هكذا؟ فقال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله، أو قال: هي من الطوافين عليكم والطوافات، فتعجب كعب أيضاً من ذلك.
والأقرب أنهما كانا قد عرفا تنجيسه من قبل، فهذا يؤكده ويوضح ما قلناه من أن خبر ابن سيرين يجب أن يكون منسوخاً.
__________
(1) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/20.
(2) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/19، إلا أنه لم يذكر تعجب كعب.(2/28)


ومما يدل على ما ذهبنا إليه أنا نقيس سؤر هذه الحيوانات ـ أعني الحمير والسباع ـ على سؤر المسلم وسؤر الهر؛ بعلة كونها حيوانات طاهرة في حال الحياه، فيجب أن تكون آسارها(1) طاهرة، وقياسنا أولى من قياسهم إن استقر لهم القياس، لموافقة تعليلنا تعليل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ألا ترى إلى قوله في الهرة: (( إنها ليست بنجسة ))؟ فعلل طهارة سؤرها بكونها غير نجسة.
ومخالفنا يقيس سائر السباع على الكلب فيقول: لما كان الكلب محرم الأكل، لا لحرمته، ويستطاع الامتناع من سؤره وجب تنجيس سؤره، فكذلك سائر السباع لمشاركتها له في هذه العلة، وهذه العلة غير صحيحة، وذلك أنَّه إن عُنى بقوله: إنَّه يستطاع الإمتناع منه، أن من لم يقتنه ولم يمسكه، ولم يخلطه بنفسه، يمكنه الامتناع عن سؤره، فهذا موجود في الهر، وذلك موجب نقض العلة، وإن أرادوا أن من اقتناه وأمسكه وخلطه بنفسه يمكنه الامتناع منه، فذلك غير مسلم في الكلب؛ بل المعلوم خلاف ذلك، فهذا الوصف أما إن يذكر على وجه لا يوجد في الأصل، أو على وجه تنتقض به العلة، فبان بذلك سقوط هذه العلة.
مسألة [ في سؤر الجنب والحائض ]
قال: وكذلك سؤر الجنب والحائض، إلا أن يتغير باللعاب فيخرج من كونه طهوراً، وإن كان طاهراً.
قد نص يحيى بن الحسين عليه السلام على جواز التطهر بسؤر الحائض(2)، فيجب أن يكون التطهر بسؤر الجنب جائزاً عنده؛ إذ الحيض عنده أعظم من الجنابة، ألا ترى أنَّه يمنع من الجماع مع بقاء حكم الحيض؟ وليس كذلك حكم الجنابة؛ ولأنه في سائر الأحكام يجمع بين الحيض والجنابة، وإن فرق في بعضها جعل حكم الحيض أشد.
فأما القاسم عليه السلام فقد نص عليه في (مسائل النيروسي).
__________
(1) في (أ): أسواراً.
(2) ذكره في الأحكام 1/56، وهو هنا بالمضي.(2/29)

7 / 138
ع
En
A+
A-