بمعنى أنها آية من القرآن، فوجب أن لا يكون السجود لقرائتها واجباً، ويقاس ـ أيضاً ـ على الآية التي في آخر سورة الحج وهو قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، وعلى قوله تعالى: {أُقْنِتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِيْ مَعَ الرَّاكِعِيْنَ} [آل عمران:43]، والعلة أنها آية فيها ذكر السجود.
فإن قال قائلٌ: قول اللّه تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ}[الإنشقاق:21]، يدل على وجوب السجود عند القراءة؛ لأنَّه تعالى ذمهم على تركه، ولا يذم على ترك الشيء إلاَّ إذا كان واجباً.
قيل له: إن السجود المراد بهذه الآية هو الخضوع، وهو الذي ذم اللّه تعالى على تركه، وذلك معروف في اللغة، ومنه قول اللّه تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِيْ السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِيْ الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ}[الحج:18]، ومنه قول الشاعر:
ترى الأكم فيه سُجداً للحوافر
ويصحح تأويلنا هذا أنَّه غير واجب عند قراءة جميع القرآن، وما ذهبوا إليه يوجبونه عند قراءة آي في مواضع من القرآن مخصوصة، فصار ما ذهبنا إليه أولى.
فإن قيل روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: عزائم السجود {أَلَم تَنْزِيْلٌ}، و{حَم}، و{النَّجْمِ}، و{اقْرَأْ}؟
قيل له: ليس فيه أنَّه واجب، ويجوز أن يكون المراد به أنَّه أوكد في الاستحباب.
مسألة [ في رفع اليدين عند التكبير ]
ولا يرفع المصلي يديه في شيء من التكبيرات، لا الأولى ولا غيرها، ولا في القنوت.
نص في (الأحكام)(1) على أن المصلي لا يرفع يديه في شيء من التكبيرات. ونص القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي)، على أنَّه لا يرفع يديه في دعاء القنوت.
والأصل فيه:
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/92.(16/40)


ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم بن شنبذين، قال: أخبرنا أبو قلابة عبدالملك بن محمد الرقاشي، قال: أخبرنا أبو زيد الهروي، وأبو الوليد، قالا: حدثنا شعبة، عن سليمان ـ يعني الأعمش ـ، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة، قال: دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسجد، وهم رافعون أيديهم في الصلاة، فقال: (( مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة )).
وأخبرنا أحمد بن علي النيسابوري، حدثنا أبو سعيد أحمد بن [محمد بن](1) إبراهيم العدل، حدثنا أحمد بن العباس بن حمزة، حدثنا محمد بن مهاجر البغدادي، حدثنا أبو معاوية، ويحيى بن سعيد القطان، قالا: حدثنا الأعمش، عن المسيب، عن تميم، عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( مالي أراكم رافعي أيديكم في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة )).
ففي هذا الحديث دلالة من وجهين على صحة ما اختاره القاسم، ويحيى عليهما السلام:
أحدهما: قوله: (( مالي أراكم رافعي أيديكم في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس )). فذم رفع أيديهم في الصلاة، وذلك يقتضي النهي، ويجري مجرى قوله: لا ترفعوا أيديكم في الصلاة، وذلك يشتمل على التكبيرة الأولى، وسائر التكبيرات، والقنوت، في أن رفع الأيدي عندها(2) منهي عنه.
والوجه الثاني: قوله: (( اسكنوا في الصلاة ))؛ لأنه أوجب السكون في الصلاة، ورفع الأيدي ترك له، فوجب أن يكون منهيّاً عنه.
__________
(1) ـ زيادة من (ج).
(2) ـ في (ب): عندنا.(16/41)


وأخبرنا أبو العباس الحسني قال: أخبرنا ابن شنبذين، حدثنا أبو قلابة، [حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وبشر بن عمر، قالا:](1) حدثنا شعبة، عن عبد ربه، عن سعيد، عن أنس بن أبي أنيس، عن عبدالله بن نافع بن العمياء، عن عبدالله بن الحارث، عن المطلب بن أبي وداعة، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( الصلاة مثنى مثنى، فتباؤس وتسكن(2) ))) فأوجب صلى الله عليه وآله وسلم التسكن فيها.
فإن قيل: يحتمل أن يكون قوله: (( مالي أراكم رافعي أيديكم في الصلاة )). خرج في قوم رفعوا أيديهم في غير موضع الرفع.
قيل له: إنَّه صلى الله عليه وآله وسلم ذم رفع الأيدي في الصلاة من غير أن يكون استثنى منها موضعاً من موضع، فاقتضى ذلك النهي عن رفع الأيدي فيها عاماً من غير تخصيص، وذلك هو ما ذهبنا إليه.
ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِيْنَ هُمْ فِيْ صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1،2]، والخشوع هو السكون.
ومنه قيل في قوله تعالى: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ}، أي سكنت الأصوات.
ومنه حديث زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام بإسناد له ـ تقدم في الكتاب ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته فقال: (( لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارحه )).
فأما الأخبار الواردة في رفع اليدين عند التكبيرات فهي عندنا منسوخة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس )). وبقوله: (( اسكنوا في الصلاة )).
وذكر الجصاص أن في بعض الأخبار (( كفّوا أيديكم في الصلاة ))، وعلى أن في جمل ما روي في ذلك من الأخبار ما لا خلاف في أنَّه منسوخ، وهو رفع اليدين عند القيام من السجدة، وكذلك رفع اليدين بين السجدتين منسوخ عند أكثر العلماء.
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و(ب).
(2) ـ في (أ): فخشوع وتسكن.(16/42)


وأخبرنا أحمد بن علي النيسابوري،، حدثنا أبو سعيد العدل، حدثنا أحمد بن العباس بن حمزة، حدثنا محمد بن مهاجر، حدثنا سفيان بن عيينة، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن البراء، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يرفع يديه في أول تكبيرة، ثم لم يعد(1)، [فقوله: كان يرفع يديه في أول تكبيرة، يدل](2)، على أن صلاته كانت استقرت على أن لا يرفع يديه(3)، إلاَّ في التكبيرة الأولى؛ لأنَّه فعل ذلك على سبيل التعليم لصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لم يكن يرفع يديه في غيرها، وفي ذلك نسخ رفع اليدين في غيرها من التكبيرات، وقوله: (( ثم لم يعد ))، يدل على نسخ الرفع في التكبيرة الأولى؛ لأن قوله: ثم لم يعد، يبين له تركه بعد فعله، وهو دليل النسخ.
ومن جهة النظر أن الجميع قد أجمعوا على أن الأيدي لا ترفع عند التكبيرة التي تفعل للقيام من السجود، وكذلك لا ترفع بين السجدتين عند أكثر العلماء، فوجب أن لا يرفع عند شيء من التكبيرات، والمعنى أنها من الصلاة.
وكذلك قد ثبت أنَّه إذا كان في القراءة دعاء لم يرفع الأيدي، فكذلك في القنوت، والمعنى أنَّه دعاء، في الصلاة.
مسألة [ في حكم القنوت وموضعه ]
والقنوت سنة في الركعة الأخيرة من الفجر، والوتر، بعد الركوع، يجهر به، ولا يقنت فيهما بشيء سوى آيات من القرآن.
قد نص في (الأحكام) و(المنتخب)(4) على أنَّه في الفجر والوتر بعد الركوع، وعلى أنه ليس بواجب.
ونص في (المنتخب)(5) على أنه مجهور به.
والوجه فيه:
__________
(1) ـ في (أ): لم يعده.
(2) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و(ب).
(3) ـ في (ج): يديه فيها.
(4) ـ انظر الأحكام 1/107. والمنتخب ص58.
(5) ـ انظر المنتخب ص58.(16/43)


ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوراث، حدثنا عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن أنس، قال: صليت مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الغداة، فلم يزل يقنت حتى فارقته(1).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: كنت جالساً عند أنس بن مالك، فقيل له: إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهراً. فقال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا(2).
وأخبرنا أبو بكر [المقرئ، حدثنا أبو جعفر الطحاوي](3)، قال: أخبرنا الحسين بن عبدالله بن منصور الرئيس، حدثنا الهيثم بن جميل، حدثنا أبو هلال الراسبي، عن حنظلة السدوسي، عن أنس، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الصبح يكبر، حتى إذا فرغ، كبر، فركع، ثم رفع رأسه [فسجد، ثم قام في الثانية، فقرأ حتى إذا فرغ، كبر، فركع، ثم رفع رأسه](4) فدعا، فصرح بأنه قنت بعد الركوع(5).
وأخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله، قال: أخبرنا محمد بن الحسين العلوي المصري، حدثنا أبي، حدثنا زيد بن الحسن، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن ابن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، أنَّه كان يقنت في الوتر والصبح، يقنت فيهما في الركعة الأخيرة حين يرفع رأسه من الركوع.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/243.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/244.
(3) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و(ج).
(4) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و(ب).
(5) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/244. وفيه: الحسن بن عبد الله بن منصور البائسي.(16/44)

68 / 138
ع
En
A+
A-