وأخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله، حدثنا أبو أحمد الأنماطي محمد بن جعفر، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يحدث عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله: (( إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِيْنَ}[الفاتحة:7]، فأنصتوا )).
فاقتضى ذلك المنع من النطق الذي يكون تابعاً لفاتحة الكتاب، وليس ذلك إلاَّ "آمين"، فوجب نسخه.
فإن قيل: فهذا يلزمكم في القراءة بعدها.
قيل له: هذا لا يلزم، لأن القراءة ليست تابعة لفاتحة الكتاب، وآمين تابع لها، والأمر بالإنصات على سبيل الاتباع لفاتحة الكتاب، فهو ينسخ النطق الذي يؤتي به على سبيل الاتباع له، على أن وائلاً مرة روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفع بها صوته، ومرة روى خفض بها صوته، وهذا يوجب اضطراب حديثه، وضعفه، على أن ما ذهبنا إليه هو إجماع أهل البيت عليهم السلام، وقد بينا أن إجماعهم عندنا حجة.
فإن قيل: فقد روي ذلك عن أحمد بن عيسى عليه السلام، فكيف أدعيتم إجماع أهل البيت عليهم السلام؟
قيل له: روي عنه إجازة ذلك، دون الاختيار، فلا خلاف إذاً في أنَّه لا يقال في الصلاة، على أن أهل البيت عليهم السلام قد أجمعوا، والإجماع محكوم به في أي وقت انعقد.
مسألة [ والقهقهة والضحك يفسد أن الصلاة ]
والقهقهقة في الصلاة مفسدة لها، وكذلك الضحك إذا ملأ فاه، وشغله عما هو فيه من صلاته، وإن لم يبلغ أن يكون قهقهة.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1)، ولا خلاف في أن القهقة تفسدها.
والأصل فيه: ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي وخلفه أصحابه، فجاء أعمى، فوقع في بئر، فضحك بعضهم، فأمرهم صلى الله عليه وآله وسلم بإعادة الوضوء والصلاة.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/111.(16/35)
ووجه ما قلنا: إن الضحك الذي هو دون القهقهة ـ أيضاً ـ مفسد للصلاة: أنَّه قد ثبت في الأفعال التي يفسد كثيرها الصلاة، ولا يفسد قليلها، أن ما تجاوز منها القليل، وإن لم يبلغ أن يكون كثيراً، كان حكمه حكم الكثير، كالحركة التي تجاوز حد القلة، وكذلك الإشارة والإلتفات، فلما ثبت ذلك، وثبت أن الضحك الذي شغل المصلي عن الصلاة قد تجاوز التبسم الذي هو قليل في جنسه، قلنا: إن حكمه حكم القهقهة في أنها تفسد الصلاة؛ لأنَّه بالقهقهه أشبه منه بالتبسم، على أن الحديث الوارد هو بذكر الضحك دون ذكر القهقهة.
مسألة [ في سجود التلاوة في الصلاة ]
قال: ولا ينبغي لمن قرأ في صلاة فريضة سجدة أن يسجد لها، فإن كان متطوعاً، جاز، وإن لم يفعل، كان أحب إلينا.
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1). وخرَّج أبو العباس الحسني رحمه الله إبطال المكتوبة بها على ما نص عليه في (المنتخب)(2) من إبطال الصلاة على من سجد سجدتي السهو قبل التسليم.
والوجه في ذلك: أنَّه زاد في الصلاة ـ ذاكراً ـ زيادة ليست منها، لو نقص عنها مثلها، بطلت صلاته، فوجب فساد صلاته قياساً على الركعة الواحدة إذا زيدت مع الذكر، لمَّا كانت زيادة في الصلاة ليست منها، كما(3) لو نقص مثلها منها بطلت الصلاة.
فإن سأل عمن زاد في القراءة على الواجب؟
قيل له: هو من الصلاة، وإن لم يكن من واجبها، فليس يلزم هذا على علتنا.
فإن قال: ليست العلة في فساد صلاة من زاد فيها ركعة أنها زيادة على الوجه الذي ذكرتم، بل العلة في ذلك أنَّه نقض الصلاة بتركه القعود قبل الابتداء في الركعة الزائدة؛ لأنَّه لو فعله تمت صلاته.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/113 ـ 114.
(2) ـ انظر المنتخب ص42.
(3) ـ سقط من (ب): كما.(16/36)
قيل له: لا يضرنا ما ذكرت، وإن كان عندنا فاسداً؛ إذ فساد الصلاة على سواء قعدت للصلاة(1)، أو لم تقعد عندنا، وذلك أن قولك: إن العلة هي في ذلك النقص لا معنى له؛ لأنَّه لو أتى بتلك الجلسة بعد الركعة الزائدة، كانت الصلاة عندكم فاسدة.
وليس لكم أن تقولوا: إن الصلاة فسدت، لأن الجلسة أُخرت؛ لأنه لو قام، ثم جلس قبل أن يتم الركعة، صحت الصلاة عندكم، فبان أن العلة هي ما ذكرناه.
فإن قيل: إنها تصير من الصلاة إذا قرئت سورة فيها سجدة، فلا تكون زيادة ليست منها؛ لأن السورة صارت من الصلاة إذا قرئت فيها، والسجدة واجبة بالسورة، فصارت من الصلاة.
قيل له: هي عندنا غير واجبة بالسورة، فبطل ما تعلقتم به، وسنبين الكلام فيه بعد هذه المسألة.
فإن قيل: روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سجد في صلاة الصبح بتنزيل السجدة.
قيل له: يحتمل أن يكون المراد به أنَّه صلى صلاة الصبح بتنزيل السجدة، فعبر بالسجود عن الصلاة كما يعبر عنها بالركوع، فيقال: ركع بمعنى صلى، ويحتمل أن يكون الراوي أراد به ركعتي الفجر، فعبر عنها بصلاة الصبح، فأما النافلة فلم يرَ يحيى عليه السلام بأساً أن يسجد فيها للتلاوة؛ لأنَّه لو زاد في النافلة ـ أيضاً ـ ما شاء من عدد الركعات لم يفسدها، فكذلك السجود، واستحب أن لا يسجد في النافلة ـ أيضاً ـ؛ لأنَّه روي أن النوافل مثنى مثنى، وأنه هو المستحب، فصار الاقتصار على ما هو الأصل منها هو المستحب.
مسألة [ في سجود التلاوة ]
قال القاسم عليه السلام: وليس السجود بفرض عند قراءة شيء من القرآن لا على من قرأ، ولا على من سمع.
وقال يحيى عليه السلام: إن المتنفل مخير في أن يسجدها.
فدل ذلك على أنَّه مستحب، إذ لم يقل أنَّه لا معنى له، على أنه لا خلاف فيه.
والأصل فيه أن وجوبه مفتقر إلى دلالة شرعية، ولم ترد دلالة شرعية تقتضي إيجابه، فوجب أن لا يكون واجباً، وأيضاً:
__________
(1) ـ في (أ): قعدت للقعدة.(16/37)
أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، عن يونس، حدثنا وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن يزيد بن عبد الله(1) بن قُسَيط، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم النجم فلم يسجد أحد منا(2).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، عن روح بن الفرج، حدثنا أبو مصعب الزهري، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن مصعب بن ثابت، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قرأ النجم، فسجد، وسجد المسلمون معه والمشركون حتى سجد الرجل على الرجل، وحتى سجد الرجل على شيء رفعه إلى جبهته بكفه(3).
فلما ثبت ما ذكرناه من هذين الخبرين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد في حال، ولم يسجد في أخرى، ثبت أن السجود غير واجب، وأن الإنسان مخير فيه.
وأخبرنا أبو بكر [المقرئ، حدثنا أبو جعفر الطحاوي، عن ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو عامر، وبشر بن عمر، عن](4) ابن أبي ذؤيب، عن الحارث بن عبدالرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة أن اللنبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ: {والنَّجْمِ} فسجد، وسجد الناس معه، إلاَّ رجلين أرادا الشهرة(5).
فدل هذا الخبر ـ أيضاً ـ أنه غير واجب إذ لو كان واجباً، لأنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتركه على الرجلين، ولم يقارهما عليه.
__________
(1) ـ سقط من (أ): بن عبد الله.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/352. وفيه: ابن وهب ويزيد بن قسيط، بدون: عبد الله.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/353. وفيه: إلى وجهه، بدل: جهته.
(4) ـ ما بين المعكوفين سقط من (أ) و(ب).
(5) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/353.(16/38)
وروى الطحاوي بإسناده عن هشام بن عروة، عن أبيه أن عمر قرأ السجدة وهو على المنبر يوم الجمعة، فنزل فسجد، وسجدنا معه، ثم قرأ يوم الجمعة الأخرى، فتهيأوا للسجود، فقال عمر: على رسلكم إن اللّه عزَّ وجل لم يكتبها علينا، إلاَّ أن نشاء، فقرأها ولم يسجد، ومنعهم أن يسجدوا(1).
ومثله إذا جرى منه بحضرة المهاجرين والأنصار، ولم ينكر منهم أحد، جرى مجرى الإجماع.
فإن قيل: فظاهره يدل على أنها قد كتبت علينا إن شئنا.
قيل: هذا التأويل خلاف الإجماع، فوجب أن يكون ساقطاً، ومعناه إلاَّ أن نشاء، فإنه مستحب، وهذا من استثناء الشيء من غير جنسه، فكأنه قال: لم يكتب علينا، لكن إن نشاء، فإنه مستحب.
وقد روي عن عطاء بن يسار أنَّه سأل أبي بن كعب، هل في المفصل سجدة؟ قال: لا.
ويجب أن يكون أراد: ليست فيها سجدة واجبة؛ لأن أُبياً قد قرأ القرآن، وعرفه حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( أُبيٌّ أقرأكم ))، ولا يجوز أن يخفي عليه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سجد في "والنجم"؛ لشهرة ذلك.
وروى ـ أيضاً ـ أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد في {اقْرَأْ}، و{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، ومن البعيد أن يخفى ذلك على أبي رحمه الله.
وروي عن زيد بن أسلم أن غلاماً قرأ عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم السجدة، فانتظر الغلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسجد، فلم يسجد، فقال: يا رسول الله، أليس فيه سجدة؟ قال: (( بلى، ولكنك إمامنا فلو سجدت سجدنا(2) ))).
فدل ذلك على أنَّه غير واجب؛ إذ لو كان واجباً، لسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمر القارئ أن يسجد(3).
[ومما يدل على ذلك أن آية السجدة قياس سائر الآيات التي لا سجود فيها](4).
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/354.
(2) ـ في (أ): لسجدنا,
(3) ـ في (أ): وأمر القارئ بها.
(4) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (أ) و(ب).(16/39)