قيل له: أكثر الأخبار وردت بأنه كان يضع جبهته بين كفيه على ما بينا، فيحمل خبر أبي حميد على ذلك، ونقول: لعله أراد بقوله: حذو منكبيه، أي محاذ لهما أمامهما، حتى تكون اليدان محاذيتين من جهة القبلة للمنكبين، ويكون الخدان حذاء اليدين، ليكون أخذاً بالأخبار كلها، وجامعاً بينها؛ ولأن وضع اليدين حيث اخترناه أتم في التجافي الذي اتفقت عليه الأخبار، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعله. وفيه ـ أيضاً ـ أنَّه زيادة في العبادة.
وما قلناه من أنَّ وضع الأنف على الأرض ليس بفرض، فمما لا أحفظ فيه خلافاً مشهوراً.
والأصل فيه الآثار الواردة بالألفاظ المختلفة أن الساجد يسجد على سبعة أعضاء: الوجه، واليدان، والركبتان، والقدمان، ولم يذكر فيها الأنف.
وقلنا: إنَّه ينصب قدميه؛ لما تضمن الحديث من ذكر القدمين.
وقلنا: يضم الأصابع حتى تكون مستقبلة للقبلة، فإن تفريجها يقتضى انحراف بعضها عن القبلة يميناً وشمالاً، واليدان معدودتان في الأعضاء التي يقع السجود بها على ما نطق به الحديث.
وقلنا: إن المرأة تتضمم؛ لأن ذلك أستر لها، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر المرأة إذا أمت النساء أن تقف وسطهن، لأن ذلك أستر لهيئاتها، وسنذكر الحديث الوارد فيه في موضعه، فلما وجدناه صلى الله عليه وآله وسلم أمرها بتغيير الموقف ليكون ذلك أستر لهيئاتها، قلنا إنها تغير الهيئة عند السجود وتضمم؛ لأن ذلك أستر لهيئاتها.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام، قال: إذا سجدت المرأة، فلتحتفز، ولتضم فخذيها.
وقد بينا وجه اختيارنا أن يقول المصلي في ركوعه: سبحان الله العظيم وبحمده، وذلك هو الوجه لاختيارنا أن يقول في سجوده: سبحان الله الأعلى وبحمده، ثلاثاً؛ لأن أحداً لم يفصل بينهما.
مسألة [ في الجلوس بين السجدتين وهيئته ]
قال: ثُمَّ يقعد، فيفرش قدمه اليسرى، وينصب قدمه اليمنى.(16/25)
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
والأصل فيه الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منها: حديث أبي حميد في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال بعد وصفه السجدة الأولى: ثُمَّ كبر، فجلس، فتورك إحدى رجليه، ونصب قدمه الأخرى، ثُمَّ كبر فسجد.
وحديث وائل بن حجر، فقال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: لأحفظن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فكلما قعد للتشهد، فرش رجله اليسرى ثُمَّ قعد عليها.
وروي عن أبي حميد، أنَّه قال: فإذا قعد ـ يعنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ للتشهد، أضجع رجله اليسرى، ونصب اليمنى على صدرها.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام أنَّه كان ينصب اليمنى، ويفترش اليسرى.
مسألة [
قال: فإذا اطمأن على قدمه اليسرى قاعداً، كبر، وسجد السجدة الثانية، فسبح فيها بما سبح في السجدة الأولى، وفعل ما فعل، ثُمَّ ينهض بتكبيرة، ويعتمد على يديه حتى يستوي قائماً، ثُمَّ يمضي كذلك في باقي صلاته.
وجميع ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(2)، غير الإعتماد على اليدين عند النهوض فإنه منصوص عليه في (المنتخب)(3)، وقد بينا الوجه في جميع ذلك في مواضعه التي مضت.
والإعتماد على يديه عند النهوض وجهه أنَّه قد ثبت أن الاعتماد عليهما عند السجود بما بيناه وشرحناه، فإذا ثبت أنهما موضعا الاعتماد بين الاستواء والانحطاط، كان هذا أولى أن يعتمد عليهما عند النهوض.
مسألة [ في المستحب في الركعتين الأخيرتين وثالثة المغرب ]
قال: ويستحب له أن يقول في الركعتين الآخرتين من الظهر والعصر والعشاء والركعة الأخيرة من المغرب: سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر، ثلاثاً، فإن قرأ فاتحة الكتاب بدلاً من ذلك، أجزأه، والتسبيح أفضل.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/93.
(2) ـ انظر الأحكام 1/93.
(3) ـ انظر المنتخب ص42.(16/26)
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(1).
والوجه في ذلك ـ ما ذكره يحيى عليه السلام ـ وحكاه عن القاسم عليه السلام أنَّه مروي عن أمير المؤمنين عليه السلام.
وللإستدلال به طريقان: أحدهما: أنا نذهب إلى أن أمير المؤمنين عليه السلام إذا قال قولاً، وجب اتباعه، ولم يجز مخالفته، فعلى هذا يجب أن يكون فعله أولى من فعل غيره.
والثاني: أن الأمر الذي لا مجال فيه للاجتهاد لا يجوز أن يعمل به الصحابي إذا أحسنا الظن به، إلاَّ بنص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد علمنا أن موضع القراءة والتسبيح من الصلاة لا تعلم اجتهاداً؛ لأنهما جاريان مجرى الأصول، وإن كنا نرجح بعضها على بعض بالاجتهاد، فإذا ثبت ذلك، ثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يفعله، إلاَّ بنص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد استدل يحيى بن الحسين صلوات الله عليه في هذه المسألة، وفي كثير من نظائرها بهذة الطريقة، واستدل على ذلك بأن قال: إنا وجدنا أذكار الصلاة تختلف فمنها ما يجهر به في جميع الأحوال، وهو: التكبير والتسليم.
ومنها ما يجهر به في حال ويخافت به في حال، وهي القراءة في الأولتين من المكتوبات، فإنها يجهر بها في المغرب والعشاء والفجر، ويخافت بها في الظهر والعصر.
ومنها ما يخافت به في جميع الأحوال وهو التسبيح في الركوع والسجود، وما يجري مجراه من التشهد.
فلما وجدنا ما يقال في الركعتين الأخيرتين مخافتاً به في جميع الأحوال، قلنا: إن الأَولى أن يكون ذلك تسبيحاً(2).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/94 ـ 95. انظر المنتخب ص45.
(2) ـ انظر الأحكام 1/95 ـ 102.(16/27)
وليس لأحد أن يقول: إن قول الله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}[المزمل:20]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج )) يقتضي تكرير القراءة في كل ركعة؛ لأنا قد بينا فيما تقدم أن ذلك كله يقتضي قراءة مرة واحدة في الصلاة، وأوضحنا الكلام فيه.
ووجه اختياره هذا التسبيح بعينه أنَّه كالبدل من القرآن بدلالة ما رواه أبو بكر الجصاص، بإسناده عن عبدالله بن أبي أوفى، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، فعلمني ما يجزيني!
فقال: (( قل سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم )).
وفي الحديث الذي ذكرناه بإسناده في مسألة الانتصاب بعد الركوع عن رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً في المسجد، فدخل رجل فصلى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قمت في الصلاة، فكبر، ثُمَّ اقرأ إن كان معك قرآن، فإن لم يكن معك قرآن، فاحمد الله، وكبر، وهلل، ثُمَّ اركع )). فجعله صلى الله عليه وآله وسلم بدلاً من القرآن.
فإن قيل: قولكم هذا ظاهر الفساد؛ لأنَّه يؤدي إلى أن يكون غير القرآن من الذكر أفضل من القرآن.
قيل له: لسنا نقول ذلك مطلقاً، ولا يؤدي قولنا إليه، وإنما نقول: إن الركعتين الآخرتين هما موضع التسبيح، فالتسبيح فيهما أفضل، ألا ترى أنَّه لا خلاف في أن التسبيح في الركوع والسجود أفضل من القراءة، لمَّا كانا موضعين للتسبيح، ولم يؤد ذلك إلى أن يكون التسبيح أفضل من القرآن.
يؤكد ذلك أنا نمنع الحائض والجنب من قراءة القرآن، ولا نمنعهما من التسبيح، فبان أن الأحوال تختلف فمن الأحوال ما تمنع معها القراءة رأساً، ولا تمنع من سائر الأذكار.(16/28)
ومنها ما يختار معها سائر الأذكار على القراءة، وشيء من ذلك لا يوجب أن يكون غير القرآن من الأذكار أفضل من القرآن.
مسألة [ في التشهد الأوسط وصيغته ]
قال: فإذا قعد للتشهد، قال: باسم الله، وبالله، والحمدلله، والأسماء الحسنى، كلها لله، أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثُمَّ ينهض إن كان ذلك في الأولتين.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(1).
والأصل في ذلك ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا الناصر للحق، حدثنا محمد بن منصور، عن إبراهيم بن محمد بن ميمون، عن محمد بن كثير، عن محمد بن عبد الله، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام أنَّه كان يقول في التشهد في الركعتين الأولتين: "باسم الله، وبالله، والحمدلله، والأسماء الحسنى كلها لله، أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله".
وروى هذا التشهد محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، إلاَّ أنَّه قال: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ورواه محمد بن منصور، عن القاسم عليه السلام.
وروى أبو الزبير، عن جابر بن عبدالله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: "باسم الله وبالله.."، ثُمَّ ذكر قريباً من تشهد ابن مسعود، ولا أحد يقول ذلك في أول (2) التشهد إلاَّ أتمه، على ما يُروى عن أمير المؤمنين عليه السلام.
مسألة [ في التشهد الأخير ]
قال: وإن أراد أن يسلم عقيبه، قال: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت، وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(3).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/94. وانظر المنتخب ص42.
(2) ـ سفط من (ب): أول.
(3) ـ انظر الأحكام 1/102.(16/29)