ومما يدل على أن بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من فاتحة الكتاب، ومن كل سورة أن المسلمين قد أجمعوا على إثباتها في كل(1) سورة، وأجمعوا على أنها من كتاب اللّه في (طس)، فإذا ثبت أنها آية من القرآن، وأجمع المسلمون على إثباتها عند فاتحة كل سورة، دل ذلك على أنها فاتحة كل سورة؛ لأنَّه لو جاز(2) أن لا تكون آية، ما أجمع المسلمون على إثباتها في المصاحف، وليست تكون من تلك المواضع، ولجاز(3) أن يكون ذلك سبيل آي كثيرة، وهذا يؤدي إلى الطعن في القرآن، وإلى التشكيك في آي كثيرة منه.
فصل [ في بطلان صلاة من لم يجهر بالبسملة ]
نص يحيى عليه السلام في (الأحكام)(4) على إبطال الصلاة لترك الجهر ببِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ.
والوجه فيه أن الجهر عنده واجب كوجوب القراءة، فكما أن من ترك القراءة تبطل صلاته، فكذلك من ترك الجهر عنده.
والذي يقتضيه مذهبه أن من جهر في ركعة، ولم يجهر في أخرى، تجزيه صلاته؛ لأن القراءة عنده على ما بيناه تجزي في ركعة واحدة، فكذلك يجب أن يكون الجهر؛ لأن وجوبه تابع لوجوب القراءة.
مسألة [ في كيفية الركوع والسجود ]
قال: ثم يكبر، ويركع فيطامن ظهره في ركوعه، ويفرج آباطه، ويسوي كفيه على ركبتيه، ويفرج بين أصابعه، ويستقبل بهما القبلة، ولا يحرفهما على شيء من جوانبهما، ويعدل رأسه، فلا يكبه ولا يرفعه.
جميعه منصوص عليه في (الأحكام)(5)، إلاَّ تفريج الأصابع فإنه نص عليه في (المنتخب)(6)، وذكر أنَّه مروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والأصل في هذا الباب الأخبار الواردة فيه:
__________
(1) ـ في (ج): في فاتحة كل.
(2) ـ في (أ) و(ب): لأنَّه لو جاز أن تكون آية.. والمراد أن تكون آية واحدة لا آي كثيرة.
(3) ـ في (ب)و (أ): لجاز.
(4) ـ انظر الأحكام 1/105.
(5) ـ انظر الأحكام 1/93.
(6) ـ انظر المنتخب ص40.(16/15)


أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا فليح بن سليمان، عن عباس بن سهل بن سعد، قال: اجتمع أبو حميد، وأبو أسيد، وسهل بن سعد، ومحمد بن سلمة فذكروا صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، كان إذا ركع، وضع يديه على ركبتيه، كأنه قابض عليهما(1).
وروى الجصاص في (الشرح) بإسناده عن أنس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : (( إذا قمت إلى الصلاة، فتوجه إلى القبلة، وارفع، وكبر، واقرأ ما بدا لك، فإذا ركعت، فضع كفيك على ركبتيك، وفرج بين أصابعك، فإذا رفعت رأسك، فاقم صلبك حتى يقع كل عضو مكانه، فإذا سجدت، فأمْكِن كفيك من الأرض، فإذا رفعت رأسك، فأقم صلبك، فإذا جلست، فاجعل عقبك تحت إليتك، فإنها من سنتي، ومن تبع سنتي فقد تبعني )).
وروى أبو بكر بإسناده عن أبي الجوزاء، عن عائشة، قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع، لم يشخص رأسه، ولم يصوبه، ولكن بين ذلك.
وروى الجصاص بإسناده عن البراء بن عازب، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا ركع ربما يعدل ظهره، لو نصب عليه قدح من ماء، ما اهراق.
وذكر أبو العباس الحسني رحمه اللّه أن القاسم عليه السلام ذكر في (الفرائض والسنن): أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ركع، فوضع كفيه مفرقاً لأصابعهما على ركبتيه، واستقبل بهما القبلة، وتجافى في ركوعه حتى لو شاء صبي، دخل بين عضديه، واعتدل حتى لو صب على ظهره ماء، لم يسل.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/229 ـ 230. وفيه: ومحمد بن مسلمة فيما يظن ابن مرزوق.(16/16)


فأما التطبيق(1)، فقد روي أنَّه كان يعمل به، ثم نسخ، ولم يختلف الناس في نسخه بعد ابن مسعود.
مسألة [ في تسبيح الركوع والرفع منه والتسميع ]
ويقول في ركوعه: "سبحان اللّه العظيم وبحمده" ثلاثاً، ثم يرفع رأسه من ركوعه، ويقول: سمع اللّه لمن حمده.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(2).
وقال في (المنتخب)(3): يقول: سبحان اللّه العظيم وبحمده، ثلاثاً، أو خمساً، قال: ويقول: سمع اللّه لمن حمده.. إماماً كان، أو منفرداً، فإن كان مؤتماً، فإنه يقول: ربنا لك الحمد، إذا قال الإمام: سمع اللّه لمن حمده.
ووجه اختياره:"سبحان اللّه العظيم وبحمده" على غيره:
ما أخبرنا به أبو نضر محمد(4) بن روح الروياني، حدثنا أبو الحسن علي بن عبدالله الجزري المعروف بابن ساسان، حدثنا أبو جعفر عبدالغني بن رفاعة، حدثنا يغنم بن سالم بن قنبر مولى أمير المؤمنين علي عليه السلام، عن عبدالله بن الحسن، عن علي، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : (( من صلى ركعتين يقرأ في إحداهما: {تَبَارَكَ الَّذِيْ جَعَلَ فِيْ السَّمَاءِ بُرُوجاً}[الفرقان:61]، حتى يختم السورة، وفي الركعة الثانية أول سورة المؤمنين حتى يبلغ: {تَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِيْنَ}[المؤمنون:14]، ثم يقول في كل ركعة من ركوعه: سبحان اللّه العظيم وبحمده، ثلاث مرات، ومثل ذلك سبحان اللّه الأعلى وبحمده في السجود، أعطاه اللّه تعالى كذا وكذا )).
فلما رغب صلى الله عليه وآله وسلم في هذا التسبيح، علم أن له مزية في الفضل.
__________
(1) ـ التطبيق هو جعل اليدين بين الفخذين حال الركوع. وفي (النهاية): حال التشهد ...سماعاً.
(2) ـ انظر الأحكام 1/93. و المنتخب ص40 ـ 41.
(3) ـ انظر المنتخب ص40 ـ 41.
(4) ـ في (ج): أبو نضر منصور بن محمد.(16/17)


وأخبرنا أبو العباس الحسني قال: أخبرنا محمد بن بلال، حدثنا محمد بن عبدالعزيز، حدثنا الحسن بن الحسين العرني، عن علي بن القاسم الكندي، عن أبي رافع، عن علي عليه السلام أنَّه كان إذا ركع قال: سبحان اللّه العظيم، ثلاث مرات.
فإن قيل: رُوي عن عقبة الجهني، قال: لما نزل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:96. والحاقة:52]، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( اجعلوها في ركوعكم ))، فلما نزلت {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى:1]، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( اجعلوها في سجودكم )). وهذا يقتضي سبحان ربي العظيم؟
قيل له: ليس يخلو المراد بقوله: (( اجعلوها في ركوعكم )) من أن يكون أراد اجعلوا اللفظة كما هي، وهذا لا يقول به أحد، أو يكون المراد به أن يسبح اسم ربه، فإذا كان المراد الثاني، فيجب أن يكون سبحان الله؛ لأن قولنا: (( اللّه )) هو اسم ربنا الأخص، الذي لا يقع فيه اشتراك، ألا ترى أن إنساناً لو قيل له: ناد باسم صاحبك، لم يقتض ظاهر الأمر أن يقول: يا صاحبي، بل اقتضى أن يناديه باسمه الأخص، فنحن لو جعلنا هذا الخبر دليلاً لساغ، وأمكن؛ لأن ظاهره يدل على ما اخترناه. وهذا الحديث مما رواه: أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، حدثنا موسى بن أيوب، عن عمه إياس بن عامر الغافقي، عن عقبة بن عامر الجُهنِي(1).
فإن قيل: روي عن حذيفة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في ركوعه: (( سبحان ربي العظيم وبحمده ))، ثلاثاً، وفي سجوده: (( سبحان ربي الأعلى وبحمده ))، ثلاثاً.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/235(16/18)


قيل له: ما اخترناه مرجَحٌ بما بيناه من الوجه، ولأن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( اجعلوها في الركوع )) يقتضي ظاهره الأمر به، على أن قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللّهِ حِيْنَ تُمْسُونَ وَحِيْنَ تُصْبِحُونَ}[الروم:17]، روي أنَّه في المغرب والفجر والعشاء والظهر، فوجب أن يكون لفظ القرآن الوارد في الصلاة أولى؛ لأن ظاهره يقتضي الأمر به، كأنه تعالى قال: قل سبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون.
وعدد التسبيحات على ما ذكره مما لا خلاف فيه أنَّه مستحب، وأنه لا يستحب أن يكون أقل من ثلاث.
واختار للإمام والمنفرد أن يقولا: "سمع اللّه لمن حمده"، وللمؤتم أن يقول: "ربنا لك الحمد"؛ لما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا شريح بن النعمان، والمعلى، عن ابن عيينة(1)، عن الزهري، قال: سمعت أنساً يقول في حديث له: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر، فكبروا، وإذا سجد، فاسجدوا، وإذا رفع رأسه، فارفعوا، وإذا قال: سمع اللّه لمن حمده، فقولوا ربنا لك الحمد )).
وروى ذلك أبو جعفر الطحاوي، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، [وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فدل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن ربنا لك الحمد، يقوله المصلي بشرط أن يقول إمامه سمع اللّه لمن حمده؛ لأن إذا شرط.
ودل ـ أيضاً ـ على أن الإمام يقول: سمع اللّه لمن حمده من وجهين:
أحدهما: ما ذكرنا من أن ربنا لك الحمد، أمر صلى الله عليه وآله وسلم](2) أن يقوله بشرط أن يقول إمامه: سمع اللّه لمن حمده، والإمام لا إمام له.
__________
(1) ـ في هامش (ب): والمعلى بن عتيبة.
(2) ـ ما بين المعكوفين سقط من (أ) و(ب).(16/19)

63 / 138
ع
En
A+
A-