وأيضاً فقد ثبت أن التحريم لا يصح إلاَّ بالمسنون فيه، وهو التكبير، فكذلك التحليل يجب أن لا يصح إلاَّ بالمسنون فيه، وهو التسليم، والمعنى أنَّه أحد طرفي الصلاة.
فأما وجوب الترك لكل ما يفسد الصلاة، فهو أظهر من أن يحتاج إلى تبيينه؛ إذ العبارة عنه دلالة عليه.
مسألة [ في التعوذ والافتتاح ]
قال: ويستحب للمصلي أن يستقبل القبلة، وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم يقول: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي لله رب العالمين، لاشريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين. ثم يقول: الحمدلله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل. ثم يكبر فيقول: اللّه أكبر.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام)(1).
ونص القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي) على الافتتاح الثاني، وعليه نص يحيى عليه السلام في (المنتخب)(2).
فأما الاستقبال، والتكبير، فهما فرضان، وقد مضى الكلام فيهما وقولنا: مستحب ينصرف إلى التعوذ، والافتتاحين.
والوجه في تقديم التعوذ: أن اللّه تعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بَاللهِ مَنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ}، ومعناه إن أردت قراءة القرآن كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}[المائدة:6]، والمراد به أردتم القيام إلى الصلاة، فاغسلوا.
فلما اقتضت الآية تقديم الإستعاذة، واختار(3) يحيى عليه السلام الافتتاح بما هو من القرآن للوجه الذي نذكره من بعد.
اختار(4) تقديم الاستعاذة، واختار أن يقول: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض..إلى قوله: من المسلمين؛ لما ورد فيه من الأثر.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/91.
(2) ـ انظر المنتخب ص38.
(3) ـ في (أ): اختار.
(4) ـ سقط من (أ): اختار.(16/10)


أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا الحسين بن نصر، حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن عمه، عن الأعرج، عن عبدالله بن أبي رافع، عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا افتتح الصلاة، قال: (( وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض )) إلى قوله: (( وأنا من المسلمين ))(1).
وأخبرنا محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر عليه السلام، عن محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي عليه السلام، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: كان إذا استفتح الصلاة، قال: "اللّه أكبر، وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين".. إلى قوله: "وأنا من المسلمين".
فإن قيل: قد ورد الخبر بغير هذا الإفتتاح، فلم اخترتموه على غيره؟
قيل له: اخترناه لوجوه منها:
[الأول] أنَّه من رواية أمير المؤمنين عليه السلام.
والثاني: أنَّه من فعله.
والثالث: أنَّه من ألفاظ القرآن.
والرابع: أنَّه مشاكل للحال.
وأما ماله اختار الافتتاح الثاني، وهو: {الْحَمْدُللهِ الَّذِيْ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً}... إلى قوله: {وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ}، فلأن الكتاب نبه عليه، ألا ترى إلى قوله تعالى حين علَّم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيْلاً}، {وَقُلِ الْحَمْدُللهِ}...إلى آخره ثم قال: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيْراً}[الإسراء:110]، واختار أن يكون التكبير يليه ليكون موافقاً للفظ القرآن، ومطابقاً له.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/199. ومنه عبيد الله بن أبي رافع.(16/11)


واختار أن يكون الافتتاح قبل التكبير؛ ليكون ما يلي التكبير الذي هو فرض القراءة التي هي فرض، ولهذا قال فيمن أدرك الإمام ساجداً أنَّه يسجد معه، ثم يقوم، ويبتدئ الصلاة لئلا يكون وقع بين فرض التكبير وفرض القراءة ما ليس بفرض(1).
وروى أبو بكر الجصاص في (الشرح)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( إذا قمت إلى الصلاة، فارفع يديك، وكبر، واقرأ ما بدا لك )). فاقتضى ظاهره أن تكون القراءة تلي التكبير.
وروى أبو بكر ـ أيضاً ـ عن عائشة، قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمدلله رب العالمين.
وروى الطحاوي بإسناد نذكره بعد هذا، عن رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً في المسجد، فدخل رجل المسجد فقال عليه السلام: (( إذا قمت في صلاتك، فكبر، ثم اقرأ إن كان معك قرآن )) فأمره بالقراءة بعد التكبير، وكل ذلك يشهد لصحة ما اختاره يحيى عليه السلام من الابتداء بالقراءة بعد التكبير.
مسألة [ في الجهر بالبسملة]
قال: ثم يقرأ ويبتدئ ببسم اللّه الرحمن الرحيم، ويقرأ فاتحة الكتاب وسورة معها، ويجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم إن كانت القراءة مجهوراً بها، وهي آية من فاتحة الكتاب، ومن كل سورة.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام)(2).
وقد قدمنا القول في وجوب قراءة فاتحة الكتاب، وسورة، أو ثلاث آيات معها، والذي يختص هذا الموضع هو بيان وجوب الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، وأنها آية من فاتحة الكتاب، ومن كل سورة.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/115.
(2) ـ انظر الأحكام 1/93، 105.(16/12)


والجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم هو المروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، وعن محمد بن علي، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد، ومحمد وإبراهيم ابني عبدالله، وأبيهما عبدالله بن الحسن، وعن عبدالله بن موسى بن عبدالله، وعن أحمد بن عيسى عليهم السلام، رواه محمد بن منصور عنهم بأسانيده، وروى عن أكثرهم أنَّه جهر في السورتين. وروي عن بعضهم الجهر مطلقاً.
وهو مذهب جميع أهل البيت عليهم السلام لا يختلفون فيه.
واستدل يحيى عليه السلام بما رواه عن أبيه، عن جده، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن حسين بن عبدالله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: "من لم يجهر في صلاته ببسم اللّه الرحمن الرحيم فقد أخدج صلاته"(1).
واستدل ـ أيضاً ـ بما رواه محمد بن منصور، عن الحكم بن سليمان، عن عمرو بن جميع، عن جعفر، عن أبيه، جده، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( كل صلاة لا يجهر فيها ببسم اللّه الرحمن الرحيم فهي آية اختلسها الشيطان )).
وروى محمد بن منصور، عن عبّاد، عن سليمان بن مفضل، عن معتمر بن سليمان التيمي، عن أبي عبيدة، عن مسلم بن حيان، وجابر بن زيد، قالا: دخلنا على ابن عمر في داره، فصلى بنا الظهر والعصر، ثم صلى بنا المغرب، فجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم في كلتا السورتين. فقلنا له: لقد صليت بنا صلاة ما تُعرف بالبصرة. فقال ابن عمر: صليت خلف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فجهر ببسم اللّه الرحمن الرحين في كلتا السورتين حتى قبض، وصليت خلف أبي بكر، فلم يزل يجهر بها في كلتا السورتين حتى هلك، وصليت خلف أبي ـ عمر ـ فلم يزل يجهر بها في كلتا السورتين حتى هلك، وأنا أجهر بها، ولن أدعه حتى أموت.
__________
(1) ـ الأحكام 1/106.(16/13)


وروى محمد بن منصور بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : (( كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة؟ ))، قال: أقول: {الْحَمْدُللهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ}. قال: (( قل بسم اللّه الرحمن الرحيم ))، وهذا يقتضي الوجوب.
وروى محمد بن منصور بإسناده عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام أنَّه قال: آية من كتاب اللّه تركها الناس: بسم اللّه الرحمن الرحيم.
وروى محمد بن منصور بإسناده عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: كم الحمد لله آية(1)؟ قال: سبع آيات. قلت: فأين السابعة؟ قال: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ}.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بكرة، حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، عن أبيه، عن ابن جبير، عن ابن عباس {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِيَ}، قال: فاتحة الكتاب، ثم قرأ ابن عباس رحمه اللّه تعالى: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ}، وقال: هي الآية السابعة(2).
وروي الجهر عنه، وعن ابن الزبير، وعامة الصحابة.
وروى محمد بن منصور، عن أحمد بن عثمان بن حكيم، عن أبي نعيم، عن خالد، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( أَمَّني جبريل عليه السلام عند البيت، فجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم )).
__________
(1) ـ في (ب): كم آية الحمد.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/200.(16/14)

62 / 138
ع
En
A+
A-