فإن قيل: لو كان ما عداها فرضاً، لم يثبت فيه التخيير، بل عين في فاتحة الكتاب مع غيرها من القرآن؟
قيل له: هذا فاسد؛ لأن التخيير لا يمنع الفرض، ألا ترى أن كفارة الواجد مخير فيها، وكفارة يمين المعدم معينة؛ لأن الواجد مخير بين الإطعام، والكسوة، والعتق، والمعدم فرضه في الصيام، فكذلك التخيير فميا عدا فاتحة الكتاب لا يخرجه من أن يكون فرضاً.
فإن قيل: فلم قلتم إن تكرير القراءة غير واجب في كل ركعة؟
قيل له: لأن الآية والخبر أوجبا قراءة مرة واحدة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}[المزمل:20]، وإلى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا صلاة إلاَّ بفاتحة(1) الكتاب )) وقوله: (( لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ))، وقوله: (( كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ))، فمن قرأ فاتحة الكتاب مرة واحدة، يكون قد خرج من عهدة الخبر، ومن قرأ معها غيرها من القرآن، امتثل حكم الآية، فبان أن الفرض من ذلك مرة واحدة.
واستدل يحيى عليه السلام على ذلك بأن قال(2): إن اسم الصلاة يتناول جملتها، دون أجزائها، فالواجب أن تحصل القراءة في جملتها دون أجزائها بقضية الظواهر التي ذكرنا من الكتاب والسنة، قال: وكل ركعة على حيالها لا تسمى صلاة، فلا يجب أن يكون(3) قوله: (( لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب، وكل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ))، موجباً قراءتها في كل ركعة، على أن القراءة مقيسة على سائر الأذكار، من تكبيرة الافتتاح، والتشهد الأخير، والتسليم، في أنها لا يتكرر فرضها، كما لا يتكرر فرض هذه الأذكار.
__________
(1) ـ في (أ): فاتحة.
(2) ـ انظر الأحكام 1/95 ـ 97.
(3) ـ في (ب): فلا يكون.(16/5)
ومما يدل على ذلك ـ أيضاً ـ أنَّه لا خلاف في أن من أدرك الإمام راكعاً، فقد أدرك الركعة، فلو كانت القراءة فرضاً في جميع الركعات، لكان المدرك للركوع غير مدرك للركعة إذا لم يدرك القراءة، فبان أن سبيلها سبيل تكبيرة الركوع، وقياس عليها.
فإن قيل: فإنه لم يلحق القيام مع أنَّه مدرك للركعة، وهذا لا يدل على أن القيام غير فرض.
قيل له: إنَّه يكون مدركاً للقيام، لأنَّه يجب عليه أن يكبر تكبيرة الافتتاح، ثم يركع، فيكون قد حصل له القيام، فلهذا لم يجب سقوط فرضه.
والمستحب عند يحيى عليه السلام على ما نص عليه في (الأحكام)(1): أن يقرأ مع فاتحة الكتاب بسورة تامة؛ لأن في بعض الأخبار: (( لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب وسورة )).
وقال في (المنتخب)(2): إن قرأ مع فاتحة الكتاب ثلاث آيات، أجزأه لأنَّه قاسها على أصغر السور.
مسألة [ في القيام، والركوع، والسجود ]
ومن فرضها: القيام، والركوع، والسجود.
وقال في (الأحكام)(3): "يصلي العليل على ما يمكنه، إن أمكنه قائماً، فقائماً". ومنع القائم أن يأتم بالقاعد، فنبه على توكيد فرض القيام(4).
وقال في (الأحكام)(5) في من لحق الإمام ساجداً: أنَّه قد فاتته الركعة؛ لأن الصلاة قيام وركوع وسجود، فمن لم يدرك الركوع فقد فاتته الركعة، فنبه على فرضهما، وذلك أجمع مما لا خلاف فيه، وقد قال اللّه تعالى: {وَقُومُوا للهِ قَانِتِيْنَ}[البقرة:238]، وقال اللّه عزَّ وجل: {وَإِذَا كُنْتَ فِيْهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ}[النساء:102]، وقال عزَّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}[الحج:77]، فأوجبها.
مسألة [ في التشهد الأخير والتسليم]
قال القاسم عليه السلام: ومن فرضها التشهد الذي يجب التسليم عقيبه، والتسليم، وترك سائر ما يفسدها.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/93.
(2) ـ انظر المنتخب ص45.
(3) ـ الأحكام 1/121.
(4) ـ انظر الأحكام 1/143.
(5) ـ انظر الأحكام 1/116.(16/6)
أما وجوب التشهد فهو منصوص عليه في (مسائل عبدالله بن الحسين)، عن جده القاسم عليه السلام، وكذلك وجوب التسليم. وقد نص يحيى عليه السلام في (المنتخب)(1) على وجوب التسليم.
والدليل على وجوب التشهد قول اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزار:56]، فأوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خلاف في أنها لا تجب في غير الصلاة، فإذاً وجوبها في الصلاة، ولا أحد أوجبها في الصلاة إلاَّ أوجب التشهد، فإذا ثبت وجوبها، ثبت وجوب التشهد، على أن قوله تعالى: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيْماً}[الأحزاب:56]، يدل على وجوب التسليم، وإذا ثبت وجوب التسليم ثبت وجوب التشهد؛ لأن كل من قال بوجوب التسليم، قال بوجوب التشهد. يدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا المُقَدَّمي، حدثنا أبو معشر البراء، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ذكر التشهد، قال: (( لا صلاة إلاَّ بالتشهد ))(2).
وأيضاً فإنا وجدنا الجلوس ركناً من أركان الصلاة هيأته غير مختصة بالعبادة، فوجب أن يكون فيه ذكر مفروض، دليله القيام، يؤكد هذه العلة أن الهيئات التي تختص بالعبادة(3) لا يجب أن يكون فيها ذكر مفروض، وهي: الركوع والسجود.
ويمكن أن يقاس التشهد على القراءة بعلة أنَّه ذكر يقع في غير الركوع والسجود، فيجب أن يكون في جنسه ما هو فرض.
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص47 ـ 48.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/275.
(3) ـ في (أ) و(ب): العبادة.(16/7)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا الحسين بن نصر، حدثنا الفريابي، حدثنا سفيان الثوري، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن علي عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : (( مفتاح الصلاة الطهور، وإحرامها التكبير، وإحلالها التسليم ))(1). وروي: (( وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم )).
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (( وتحليلها التسليم )) لا يخلو من أن يكون أراد به أن التحليل من الصلاة لا يكون إلاَّ بالتسليم، أو أراد: أن التحليل الصحيح لا يكون إلاَّ بالتسليم، [فلا يجوز أن يكون أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن التحليل لا يكون إلاَّ بالتسليم](2)؛ لأن الخروج من الصلاة يتنوع من سبق الحدث(3)، أو تعمده القطع، فلم يبق إلاَّ أن يكون المراد به أن التحليل الصحيح لا يكون إلاَّ بالتسليم، فثبت فرض التسليم.
فإن قيل: روي عن عبدالله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( إذا رفعت رأسك من آخر سجدة، وقعدت، فقد تمت صلاتك )).
قيل له(4): وقد روي عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( إذا رفعت رأسك من آخر سجدة(5)، فقد تمت صلاتك ))، من غير ذكر القعود.
وروي ـ أيضاً ـ عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( إذا رفع المصلي رأسه من آخر صلاته، وقضى تشهده، ثم أحدث، فقد تمت صلاته، ولا يعود لها )) وفي هذا الحديث(6) التشهد.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/273.
(2) ـ ما بين المعكوفين زيادة في (ج).
(3) ـ في (أ): الحديث.
(4) ـ سقط من (ب): له.
(5) ـ في (ب): السجدة.
(6) ـ في (ج): وذكر في هذا الحديث. وفي (ب): وفي الحديث.(16/8)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا أبو نعيم، وأبو غسان ـ واللفظ لأبي نعيم ـ قالا: حدثنا زهير بن معاوية، عن الحسن بن بحر(1)، عن القاسم بن عمير(2)، قال: أخذ علقمة بيدي، فحدثني أن عبد الله أخذ بيده، وأن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيده، وعلمه التشهد، وقال: (( فإذا فعلت ذلك، وقضيت هذا، فقد تمت صلاتك، إن شئت إن تقوم، فقم، وإن شئت أن تقعد، فاقعد ))(3)، فهذه الأخبار على ما ترى قد اختلفت.
ووجه الخبرين الأولين، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد بالتمام مقاربة التمام، إذ محالٌ أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول مرة: (( إذا رفعت رأسك من آخر السجدة، وقعدت، فقد تمت صلاتك ))، [ومره يقول: (( إذا رفعت رأسك من آخر السجدة فقد تمت صلاتك ))](4)، إلاَّ على الوجه الذي قلنا؛ لأنَّه إن لم يحمل الأمر فيه على المقاربة، تنافى الخبران.
والخبران اللذان فيهما ذكر التشهد المراد بهما مع التسليم، بالأدلة التي قدمناها، ويؤكد هذا التأويل أنَّه لا خلاف أن التشهد مستحب، وأن تركه مكروه، ولا يجوز أن يقول صلى الله عليه وآله وسلم: وإن شئت، فافعل المكروه، وإن شئت، فلا تفعل، فبان أن المراد: فإذا قضيت التشهد والتسليم، فإن شئت فاقعد، وإن شئت فقم.
وأيضاً فقد بينا أن أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة على الوجوب؛ لأنَّه بيان لمجمل واجب، وقد قال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم: (( صلوا كما رأيتموني أصلي ))، وقد ثبت أنَّه كان يتشهد، ويحل الصلاة بالتسليم، فثبت وجوبهما.
__________
(1) ـ في (أ) و(ب): عن الحسن بن الحسن.
(2) ـ في (ج): عن القاسم بن خيمرة.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/275. وفيه الحسن بن الحر، بدلاً عن بحر.
(4) ـ ما بين المعكوفين زيادة في (ج).(16/9)