وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1). وذكره ـ أيضاً ـ في (المنتخب)(2)، وأكده حتى قال: ولا أحب الصلاة على اللبود وبسط الشعر والوبر.
والوجه في ذلك: حديث زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( جُعلت لي الأرض مسجداً، وترابها طهوراً )). فاستحب للإنسان أن يسجد ويصلي على ما جعله اللّه مسجداً من الأرض، ولا خلاف أن ما أنبتت الأرض في هذا الباب حكمه حكم الأرض، فلذلك قال: أو على ما أنبتت الأرض، فإذا ثبت أن ذلك مستحب، كره العدول عنه إلى المسوح واللبود إذا لم يكن ضرورة؛ لأنَّه عُدولٌ عن المستحب في العبادة لا لغرض.
مسألة [ في الصلاة على ما فيه تمثال حيوان ]
قال: وتكره الصلاة على البسط التي عليها تماثيل الحيوان.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(3).
والوجه في ذلك ما ذكرناه في باب الاستقبال من الأخبار الواردة عن النبي صلى الله علي وآله وسلم في كراهة التماثيل، فلا طائل في إعادتها.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/132.
(2) ـ انظر المنتخب ص37.
(3) ـ انظر المنتخب ص37.(15/19)


باب القول في صفة الصلاة وكيفيتها
فرض الصلاة:
[مسألة في ] النية، وتكبيرة الإفتتاح
قال في (المنتخب)(1): ينبغي لمن أراد الصلاة أن ينوي قبل التوجه لها، وإن لم يفعل، كانت النية المتقدمة مجزئة. فكان ذلك تصريحاً بإيجابها.
وحكى أبو العباس الحسني رحمه الله، عن القاسم عليه السلام أنَّه قال: يجب أن ينويها قبل أن يقوم إليها.
قال يحيى بن الحسين عليه السلام في (المنتخب)(2): لا خلاف أنَّه من ترك التكبيرة الأولى أن صلاته باطلة.
وقال ـ أيضاً ـ فيه(3): من سهى عن التكبير كله، فصلاته باطلة، ومن نسي بعض التكبير سجد سجدتي السهو، ولا إشكال أن سائر التكبيرات غير واجب، فإذا الواجب هو التكبيرة الأولى.
واعلم أنَّه لا خلاف في النية في الصلاة؛ ولأنها عبادة مقصودة بنفسها تقع على وجوه مختلفة، فلا بد فيها من النية، وقد شرحنا هذا الباب في مسألة النية في الطهارة.
واختلف الناس فيها، فمنهم من رأى أنها تجب أن تكون مخالطة للتكبيرة، ومنهم من أجاز أن تكون متقدمة عليها.
والدليل على جواز تقدمها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى ))، فاقتضى ظاهر الخبرين أن النية والمنوي متى وقعا أجزيا، سواء تقدمت النية، أو تأخرت، أو قارنت، إلاَّ ما منع الدليل منه، على أن الصوم لم يختلف الناس أن تقدم نيته على وقته جائز، فكذلك يجب أن يكون حكم نية الصلاة؛ لأن كل واحدة منهما عبادة ذات أبعاض، فيجب أن يكون تقديم النية على أولها مثل اقترانها به.
فأما التكبيرة الأولى فلا خلاف في أنها فرض، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ))، ولأنه بها يتوصل إلى الصلاة، فيجب أن تكون فرضاً، كالطهارة، وستر العورة.
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص36.
(2) ـ انظر المنتخب ص39.
(3) ـ انظر المنتخب ص45.(16/1)


واختلف الناس في اللفظ به، وأجمعوا أن الصلاة تنعقد بقول القائل: اللّه أكبر، والظاهر من مذهب يحيى عليه السلام: أن الصلاة لا تنعقد بغيره؛ لأنَّه قال في (الأحكام)(1) في باب الإفتتاح حاكياً عن اللّه عزَّ وجل: "ثم أمره أن يكبر، ويفتتح الصلاة بالتكبير، فقال سبحانه: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيْراً}[الإسراء:111]، وهو أن يقول المصلي: اللّه أكبر"، [فصرَّح بأن المراد بالأمر بالتكبير، هو: اللّه أكبر.
وحكى أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه في (كتاب الصوم)، عن أحمد بن يحيى بن الحسين، أنَّه قال: إن قال: اللّه أجل، أو أعظم، أجزأه؛ لأنَّه من التكبير معنى.
ووجه قول يحيى بن الحسين عليه السلام: أن الذي يعقل من ظاهر التكبير هو قول القائل: اللّه أكبر](2)، ألا ترى أنَّه يُفصل في الشرع، واللغة، والعرف بين التكبير والتهليل، وإن كان التهليل من جهة المعنى تكبيراً، وإذا ثبت ذلك وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (( تحريمها التكبير ))، اقتضى ظاهره اللّه أكبر، وعلى أنَّه هو المشهور من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفِعل من بعده من الصحابة والتابعين، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : (( صلوا كما رأيتموني أصلي ))، على أن أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة تدل على الوجوب؛ لأنها بيان لمجمل واجب، وهو قوله تعالى: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ} [المزمل:20].
ووجه ما حاكاه أبو العباس الحسني رحمه الله، عن أحمد بن يحيى عليه السلام: هو أنه مقيس على قولنا: اللّه أكبر، بمعنى أنَّه تعظيم لله تعالى، وأن سائر ما ذكرنا هو إيجاب قولنا: اللّه أكبر، وليس فيه أن غيره لا ينوب منابه.
مسألة [ قرآءة الفاتحة وثلاث آيات مرة واحدة ]
قال: ومن فرضها قراءة فاتحة الكتاب وثلاث آيات معها مرة واحدة.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/92.
(2) ـ ما بين المعكوفين في (ج).(16/2)


نص على ذلك في (الأحكام)(1) فقال في باب الدخول في الصلاة: من افتتح الصلاة وكبر وجب عليه أن يقرأ فاتحة الكتاب، وما تيسر معها من السورة.
وقال في (المنتخب)(2): من قرأ فاتحة الكتاب وحدها، بطلت صلاته، حتى يقرأ معها ثلاث آيات.
وقلنا: مرة واحدة؛ لأنَّه قال في (الأحكام)(3): من لم يقرأ فاتحة الكتاب في الصلاة بطلت صلاته، فإن قرأها في ركعة أو ركعتين كانت صلاته تامة.
والأصل فيه الحديث الذي استدل به في (الأحكام)، رواه محمد بن منصور، عن جبارة بن(4) المغلس، حدثنا مندل، عن أبي سفيان نصر بن طريف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : (( مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، ولا تجزي صلاة لا يقرأ فيها فاتحة الكتاب وقرآن معها )).
وروي: (( لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب، وشيء معها )).
وفي بعض الأخبار: (( وسورة من القرآن )).
وعن أبي سعيد الخدري، قال: (( أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر )).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم ـ في حديث رفاعة بن رافع للأعرابي ـ: (( ثم اقرأ فاتحة الكتاب، وما تيسر )).
وليس لأحد أن يقول: لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب، هو(5) لنفي الكمال دون الإجزاء؛ لأن (( لا )) موضوع للنفي، والمنفي ما يتناوله لا، فيجب على هذا أن يكون ظاهر الخبر يوجب أن من لم يقرأ فاتحة الكتاب، وقرآناً معها، فلا صلاة مجزية ولا كاملة.
فإن قيل: الخبر لا ظاهر له؛ لأنا نعلم الصلاة حاصلة، وإن لم يقرأ فيها ما ذكرتم؟
قيل له: لسنا نسلم أن اسم الصلاة ينطلق على ما ذكرتم، إلاَّ على وجه من المجاز، لأن اسم الصلاة لا يتناول إلاَّ صلاة صحيحة، وإذا لم يقرأ فيها ما ذكرنا، فلا تسمى صلاة على الإطلاق، هذا الذي نختاره في جميع الاسماء الشرعية.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/93.
(2) ـ انظر المنتخب ص45.
(3) ـ انظر الأحكام 1/105.
(4) ـ في (أ): عن.
(5) ـ في (ج): وهو.(16/3)


فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}[المزمل:20]، فمن قرأ بشيء من القرآن فقد أدى ما عليه؟
قيل له: الآية مبنية؛ لأنها عامة على ما رويناه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّه خاص، ومن مذهبنا بناء العام على الخاص.
فإن قيل: هذا لا يوجب أن يكون من بناء العام على الخاص، بل يجب أن يكون نسخاً؛ لأن الآية تقتضي التخيير في القرآءة، والخبر يقتضي المنع من التخيير، ويعين الوجوب في فاتحة الكتاب.
قيل له: ليس الأمر على ذلك؛ لأن الخبر أوجب قراءة فاتحة الكتاب، وحكم التخيير بعدها قائم؛ لأن الإنسان مخير بعدها فيما يقرأه، فليس يجب أن يكون فيه نسخ، بل يجب أن يكون على ما قلناه حتى يكون تقدير الخبر والآية: اقرأوا فاتحة الكتاب، وما تيسر من القرآن.
وهذا السؤال إنما يتوجه على من يقول: إن قرآءة فاتحة الكتاب فرض دون ما عداها، فأما نحن فمذهبنا أنَّه لا بد معها من غيرها من القرآن، فالسؤال ساقط عنّا، ونحن نرتب هذا السؤال على وجه يكون دليلاً لنا على من زعم أن الفرض هو قراءة فاتحة الكتاب دون ما عداها، بأن نقول: قد ثبت أن اللّه تعالى ألزمنا قراءة خيّرنا فيها بقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}[المزمل:20]، وألزمَنا على لسان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قراءة فاتحة الكتاب، ولا يجوز أن يكون الفرض المعين هو الفرض المخيرَ فيه؛ لأن تقدير ذلك أن نقول: {اقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ}[المزمل:20]، وهو فاتحة الكتاب، وهذا خلف من الكلام، ألا ترى أنَّه لا يصح أن يقول القائل لآخر: اِلق من شئت، وهو زيد، وإنما يصح أن يقول: ألق من شئت، وزيداً، وإذا ثبت ذلك، جرى تقدير الآية والخبر مجرى أن يقول: {اقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ}، واقرأوا فاتحة الكتاب، فيجب قراءة فاتحة الكتاب مع غيرها من القرآن.(16/4)

60 / 138
ع
En
A+
A-