فإن قيل: هلا جعلتم الحد في ذلك أن يكون الماء قُلتين، واسْتَدِلُّوا في ذلك: بما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يحيى بن نصر بن سابق الخولاني، قال: حدثنا يحيى بن الحسان، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد اللّه بن عبد الله، عن عبد اللّه بن عمر، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الماء وما ينوبه من السباع، فقال: (( إذا بلغ الماء قُلتين فليس يحمل الخبث ))(1).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا الحسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، يقول: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد اللّه بن عبداللّه، عن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه سئل عن الحياض التي في البادية تصيب منها السباع؟ فقال: (( إذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل نجساً ))(2).
وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا بلغ الماء قُلتين لم ينجّسه شيء )).
قيل له: هذه الأخبار قد رويت، لكن فيها وجوه من الكلام:
منها: أن في سندها اضطراباً يدل على ضعفها.
ومنها: أنها معارضة.
__________
(1) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/15، عن بحر بن نصر، به. وهنا قال يحيى.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/15، عن الحسين بن نصر، إلا أنه أسقط راوٍ، فقال: عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه. كما أنه قال في متنه: خبثاً.(2/20)


ومنها: أنها متأولة على خلاف ما يذهب إليه المخالف لنا، ثم جميع ما قدمناه من الأخبار ـ الدالة على تنجيس الماء القليل بوقوع النجاسة فيه ـ ومن القياس والاستدلال يدل على فساد ما ذهبوا إليه من القلتين، وعلى صحة ما نتأول عليه أخبارهم.
فأما ضعف الإسناد؛ فلأن بعض الرواة، قال: قال محمد بن عباد بن جعفر بن الزبير، وبعضهم قال: قال محمد بن جعفر، ومنهم من قال: عبدالله، ومنهم من قال: عبيد اللّه بن عبد الله، فدل ذلك على ضعف إسنادها، وأنه لم يضبط حق الضبط.
فإن قيل: لا يمتنع أن يكون خبر الواحد يرويه جماعة، فيكون هذا الخبر رواه محمد بن عباد بن جعفر، ومحمد بن جعفر، وعبد اللّه بن عبد الله، وعبيد اللّه بن عبد الله، فلا يجب أن يجعل ما ذكرتم طعناً فيه؟
قيل له: نحن لم ندَّعِ أن هذا الخبر ورد على وجه يستحيل أن يرد الخبر عليه، ولو كان ذلك لقطعنا أنَّه كذب وأسقطناه. وإنما لم نقل ذلك، وقلنا: إنَّه يدل على اضطراب سنده للاحتمال الذي ذكرتموه، فقد بان أن هذا الاحتمال يمنع من القطع على كذبه، ولا يمنع من اضطراب سنده، وأنه غير مضبوط، وهذا يقتضي ضعف الخبر، فإنه لا بد من الفصل بين الضعف في الخبر وبين السقوط.
وأما ما يبين أنها معارضة فهو:
ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن منذر، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( إذا بلغ الماء قُلتين أو ثلاثاً لم ينجّسه شيء )).
وروى(1) محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا كان الماء أربعين قُلةً، لم يحمل الخبث )).
وروي في بعض الأخبار: (( إذا كان الماء قُلة أو قُلتين )).
__________
(1) في (أ) و(ب): وروي عن.(2/21)


فبان بما ذكرناه تعارض هذه الأخبار؛ لأن هذا القول عند المخالف خرج مخرج التحديد، وكيف يجب أن يحد مرة بالقلة، ومرة بالقُلتين، ومرة بثلاث قِلال، ومرة بأربعين قُلة، ألا ترى أن التحديد لكل واحدة من ذلك ينافي التحديد للآخر، على أن قول ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رويناه أخيراً: (( إذا بلغ الماء قُلتين أو ثلاثاً )) مع ما روي عنه: (( إذا بلغ قُلتين )) يدل على أنَّه لم يضبط الحديث لتنافي الروايتين، أو على أنَّ الرواة لم يضبطوا، فهذا أيضاً يدل على ضعف الحديث؛ لأن الاضطراب في المتن كالاضطراب في السند في باب الدلالة على ضعف الخبر.
وأما التأويل الذي يُعتمد عليه في ذلك فوجوه:
منها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سئل عن الماء في البادية، قال: (( إذا بلغ الماء قلتين ))، وأراد(1) إذا بلغ في القلة والنزارة قلتين، لم يحتمل خبثاً، أي: ضعف عن أن يحمل الخبث.
فإن قيل: قد روي: لم ينجس؟
قيل له: أكثر الروايات على ما ذكرناه، ولا يمتنع أن يكون بعض الرواة سمع ذلك فتأوله على ما تأولتم عليه، ثم رواه على المعنى دون اللفظ.
فإن قيل: لو جاز قبول هذا الجنس من التأويل، لبطل أكثر الأخبار؛ إذ يمكن أن يقال فيه ذلك.
قيل له: نحن إنما قلنا ما قلناه في هذا الخبر، لأن اللفظ الأشهر الأكثر غير هذا اللفظ الذي تعلقتم به من أنَّه لا ينجس؛ ولأنا قد بينا في إسناد هذا الخبر ومتنه ما يدل على الاضطراب، وأنه غير مضبوط، وكل خبر شاركه في هذه الأوصاف صح أن يقال فيه ما قلناه في هذا الخبر، وما لم يشاركه فيها لم يصح أن يقال ذلك فيه.
ومنها: أن القُلَّة اسم لرأس الجبل، فلا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد إذا بلغ الماء قلتي الجبل كثرة، لم يحمل الخبث، ولم ينجس، وهذا هو ما نذهب إليه.
__________
(1) في (ج): والمراد.(2/22)


فإن قيل: أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقِلال(1) هجر، لأن قلال هجر كانت معروفة إذ ذاك، وقد ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأخبار.
قيل له: نحن لا نمنع أنها كانت معروفة، ولكن كون القُلَّة اسماً لرأس الجبل كان أيضاً مشهوراً، وكونه اسماً للكوز كان اسمه أيضاً معروفاً، فإذا احتمل اللفظ معاني مختلفة، لم يكن صرفه إلى بعضها أولى من صرفه إلى بعض.
على أن قلال هجر قد قيل أنها تكبر وتصغر، فلا يمكن التحديد بها، وقد بينا ما دل على نجاسة هذا المقدار من الماء بما ذكرناه في صدر كتابنا من الأخبار والقياس، فوجب أن يكون ما تأولناه صحيحاً دون ما تأوله المخالف، على أن ترتيب الشرع يبعد أن يرد الشرع بمذهبهم في القُلتين، لأن من مذهبهم أن قُلتين من الماء منفردتين لو كانتا نجستين، ثم صب(2) إحدى القُلتين على الأخرى، لطهر جميع الماء، ومن البعيد أن يكون الماءان النجسان يصيران بالخلط طاهرين، وكذلك لو نقص ما نجس عن القلتين؛ لكان نجساً، ثم لو أكمل ذلك بالبول لصار طاهراً، وهذا أبعد من الأول، ومثل هذا لا يجوز لخبر حاله في الضعف والاضطراب والتعارض واحتمال التأويلات ما ذكرنا.
مسألة [ في سؤر ما يؤكل لحمه ]
قال: ولا بأس بالتطهر بسؤر جميع ما أُكل لحمه.
__________
(1) كذا ، ولعل الصواب : قلال.
(2) في (أ): صبت.(2/23)


وهذا إذا لم يتغير باللعاب، ولست أحفظ عن يحيى فيه لفظاً صريحاً، إلاَّ أنَّه قد نص على تطهير بول ما أكل لحمه(1)، فبالأولى أن يطهر سؤره، وقد نص على الخيل والبغال والحمير، فقال: لا بأس بسؤر الفرس، والبغل والحمار، وغير ذلك من البهائم(2). وإذا لم يرَ بأساً بسؤر مالا يؤكل لحمه فبالأولى أن لا يرى بأساً بسؤر ما يؤكل لحمه، على أن عموم قوله: وغير ذلك من البهائم يقتضي ذلك، وهذا مما لا أحفظ فيه خلافاً عن أحد من الفقهاء، والوفاق أوكد الأدلة.
وقد أخبرنا أبو العباس الحسني، قال أخبرنا علي بن سليمان، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سلاَّم، قال: حدثنا الحسن بن عبد الواحد، قال: حدثنا أحمد بن صبيح، عن حسين بن علوان، عن عبد اللّه بن الحسن عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( كل شيء يجتر فلحمه حلال، ولعابه حلال، وسؤره وبوله حلال )).
مسألة [ في سؤر ما لا يؤكل لحمه ]
قال: ولا بأس بسؤر الخيل والبغال والحمير وغير ذلك من البهائم.
وهذا قد ذكرنا أن يحيى عليه السلام قد نص عليه، وتنصيصه بعد ذكر الفرس والبغل والحمار على غير ذلك من البهائم يقتضي دخول جميع السباع فيه، إلاَّ ما نص على تنجيسه من الكلب والخنزير.
فأما الخيل فلا أحفظ خلافاً في طهارة سؤرها، إلاَّ أن من الناس من يخالفنا في علة ذلك، وإن وافق في المذهب، فيرى أن طهارة سؤرها؛ لأنها مما يؤكل لحمه، وعندنا أن سبيلها سبيل البغال والحمير، وكذا القول في السباع على ما اقتضاه كلام يحيى عليه السلام.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه:
__________
(1) ذكره في الأحكام 1/57، فقال في بول الجمل والشاة يصيب الطهور منه شيء: لا بأس في التطهر به.
(2) ذكره في الأحكام 1/56، بلفظ مقارب. واشترط عدم التغيير.(2/24)

6 / 138
ع
En
A+
A-