وأبو حنيفة موافق في تنجيسه، ويذهب إلى أن اليابس منه يذهب بالفرك دون الغسل، وذلك بعيد؛ لأن الفرك يزيل بعضه دون كله؛ لأنَّه لا خلاف في أن سائر النجاسات لا يجوز أن تزال بالفرك ليبسها، وقد بينا تأويل ما ورد من ذكر الفرك، وأن المراد به التنقية والمبالغة في الغسل، أو يكون(1) هذا في الثياب التي لا يصلي فيها، وهذا مذهب جميع أهل البيت عليهم السلام.
فأما(2) المذي، فطائفة من الإمامية تذهب إلى أنَّه طاهر، وعامة ما قدمنا ذكره من الاستدلال، والمقاييس لنجاسة المني يجوز أن يعتمد عليها لنجاسته، وورد فيه:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا إبراهيم بن أبي داود، حدثنا أمية بن بسطام، حدثنا يزيد بن زريع(3)، حدثنا روح بن القاسم، عن أبي نجيح، عن عطاء، عن إياس بن خليفة، عن رافع بن خديج أن عليّاً عليه السلام أمر عماراً أن يسأل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن المذي، فقال: (( يغسل مذاكيره، ويتوضأ ))(4).
وأخبرنا أبو بكر، قال: أخبرنا(5) الطحاوي، حدثنا محمد بن خزيمة، حدثنا عبدالله بن رجاء، قال: أخبرنا زائدة بن قدامة، عن حصين، عن أبي عبد الرحمن، عن علي، قال: كنت رجلاً مذاءً، وكانت عندي ابنة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فأرسلت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (( توضأ، واغسله ))(6).
فدل هذان الحديثان على نجاسته؛ لإيجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم غسله.
مسألة [ في نصاب الدم النجس ]
قال: فأما الدم فيجب، إزالته إذا كان قَدراً لو كان على رأس جرح، قطر، فلو كان دون ذلك لم يجب إزالته.
__________
(1) ـ في (أ): أو أن يكون.
(2) ـ في (أ): وأما.
(3) ـ في (أ): يزيد بن ذريع.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/45. وفيه: عن ابن أبي نجيح.
(5) ـ في (أ): حدثنا.
(6) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/46. وفيه: عن أبي حصين.(15/14)


وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1)؛ لأن الناس اختلفوا فيما فوق(2) ذلك، فأما دون(3) ذلك، فلم يختلفوا فيه، وإن كانت عبارتهم عنه مختلفة، فمنهم من قال: إذا كان مثل رؤوس الإبر، ومنهم من قال: إذا كان مثل دم البراغيث، وكل ذلك يرجع إلى معنى واحد، أو متقارب.
ويدل على ذلك قول اللّه تعالى: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً}، فأخبر بأنه(4) نجس بعدما وصفه بأنه مسفوح، ويؤكد ذلك تعذر الإحتراز منه، والمشقة الغالبة فيه. ويدل على ذلك:
ما أخبرنا به محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر، عن محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين(5)، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: خرجت مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تطهر للصلاة، فأمس إبهامه أنفه، فإذا دم، فأعاد مرة أخرى، فلم يرَ شيئاً، وجف ما في إبهامه، فأهوى بيده إلى الأرض، فمسحها، ولم يحدث وضوءاً، ومضى إلى الصلاة.
ألا ترى أنه لما كان يسيراً لا يسيل، لم يغسل منه يده، ولا أنفه، فبان بأنه معفو عنه.
مسألة [في المبتلى بسلس البول وسيلان الجروح]
قال: ومن ابتلي بشيء مما ذكرنا، فليغسل ثوبه مما أصابه منه، فإن كان شيئاً لا ينقطع وقتاً من الأوقات، فلا ضير عليه في تركه، ولا يستحب له أن يتركه في ثوبه أكثر من يوم وليلة، إلاَّ أن يشق ذلك عليه، فيعذر في تركه يومين أو ثلاثة، على قدر ما يمكنه، وإن أمكنه ثوب غيره، عزله لصلاته.
وذلك كله منصوص عليه في (الأحكام)(6)، وقد تقدم الكلام في إيحاب غسله عن الثوب إذا أراد الصلاة فيه.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/52.
(2) ـ في (أ) و(ب): فيها دون.
(3) ـ في (أ) و(ب): فأما فوق.
(4) ـ في (أ): أنه.
(5) ـ في (ج): عن حسين بن علوان.
(6) ـ انظر الأحكام 1/65.(15/15)


فأما ما ذكرنا من أنَّه إن كان شيئاً لا ينقطع وقتاً من الأوقات، فلا ضير في تركه، فالأصل فيه الحديث الذي ذكرناه بإسناده في باب الاستحاضة، وهو(1): أن فاطمة بنت أبي حبيش لما قالت: يا رسول الله، إني أستحاض فلا ينقطع عني الدم، أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل(2)، وتتوضأ لكل صلاة، وتصلي، وإن قطر الدم على الحصير قطراً، فوجب أن يكون سبيل سائر النجاسات إذا لزمت صاحبها سبيل دم الاستحاضة؛ ولأن خلافه غير مقدور عليه، فلا يجوز أن يؤمر به.
وأما ما ذكرناه من التقديرات، فلم نذكرها على القطع، وإنما ذكرناها على التقريب.
والأصل فيه أنَّه يجب على الإنسان أن يحتاط ويزيل منه ما أمكنه؛ لأنه وإن عذر فيما يتعذر، فغير معذور فيما يمكن، ولا يتعذر، وذِكْرُنا ثلاثة أيام إنما هو لأن الغالب أن الإنسان يمكنه فيها تبديل ثوبه، فإن تعذر، كانت الثلاثة الأيام كاليومين، وكانت الأربعة كالثلاثة، في أن الإنسان يكون معذوراً فيها، إلاَّ أن يتمكن.
مسألة [ في حكم الآثار الباقية بعد الغسل ]
قال القاسم عليه السلام: ولا بأس بالآثار الباقية عن الأقذار في الثوب، بعد إبلاء العذر في إزالتها.
وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي) في دم الحيض.
ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال في دم الحيض: (( حتيه، ثم اقرصيه بالماء )).
وقال لعمار: (( إنما تغسل ثوبك من البول، والغائط، والمني، والدم، والقيء ))، وفيها ما تبقى آثاره، فلم يذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما اقتصر على ذكر القرص، والحت، والغسل، فبان أن الواجب ما ذكره عليه السلام دون ما سواه.
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال في دم الحيض حين أمر بغسله فلم يذهب أثره: (( الطخيه بزعفران )). فبان أن الأثر معفوٌّ عنه.
مسألة [ كيف يصلي العريان ]
__________
(1) ـ سقط من (أ): وهو.
(2) ـ سقط من (ب)، و(ا): ثم تغتسل.(15/16)


قال: ومن ابتلي بالعرى صلى جالساً متربعاً، ويستر عورته بالحشيش، أوالتراب، أو ما أمكنه، فإن لم يجد شيئاً منها، سترها بيده يومئ إيماء كإيماء المريض، ولا يستقل من الأرض استقلالاً يبدي عورته.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
والوجه فيه: أن المصلي أُخذ عليه القيام، وستر العورة، وهما فرضان، ولا بد للعريان من ترك أحدهما بصاحبه، فكان ترك القيام أولى من ترك ستر العورة؛ إذ وجوب ستر العورة أقوى وأوكد من وجوب القيام، ألا ترى أن له ترك القيام في النفل إلى القعود مع القدرة على القيام، وليس له أن يترك ستر العورة مع القدرة عليه، ولأن ستر العورة مأخوذ عليه في جميع الصلاة من أولها إلى آخرها، ولأنه ليس له تركه في عامة أحواله، وإن لم يكن مصلياً، ولأن القيام يترك إلى بدل، وليس يترك ستر العورة إلى بدل، فكانت هذه الوجوه كلها دالة على أن فرض ستر العورة أوكد من فرض القيام، فإذا ثبت ذلك، صح ما اختاره يحيى بن الحسين عليه السلام من الصلاة قاعداً للعريان.
وليس لأحد أن يقول: إن العريان قادر على القيام، عاجز عن ستر العورة، فليس له أن يترك القيام لعجزه عن غيره؛ لأنا قد بينا أنَّه لا بد له من ترك أحدهما بصاحبه.
يوضح ذلك أنَّه إذا قعد، يمكنه من ستر عورته ما لا يمكنه إذا قام.
فإن قيل: لا معنى لترك ثلاث فرائض التي هي: القيام، والركوع، والسجود، لفرض واحد الذي هو ستر العورة.
قيل له: نحن قد بينا أن ستر العورة أوكد في كل حال من هذه الفرائض التي ذكرتها، ألا ترى أن ستر العورة مأخوذ عليه في جميع الصلوات، بل في عامة الأحوال، وليس كذلك القيام، ولا الركوع، ولا السجود، وكل واحد من هذه الفروض متروك إلى بدل، وليس كذلك ستر العورة، فبان أنَّه أوكد منها.
مسألة [ كيف يصلي الواقف في الماء ]
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/122.(15/17)


قال: والواقف في الماء يصلي قائماً إن كان الماء كثيراً، أو قاعداً إن كان يسيراً، يومئ في كل ذلك للركوع، والسجود، وإن كانت العُراة جماعة، وأراد(1) أحدهم أن يؤمهم، قعد الإمام بينهم، واصطفَّ العراة عن يمينه ويساره، وكذلك يفعل الوقوف في الماء إن أراد أحدهم أن يؤمهم، إذا كان الماء صافياً لا يستر عوراتهم، وإن كان(2) كدراً يسترها، تقدمهم الإمام.
وكل ذلك منصوص عليه في (الأحكام)(3).
ووجه ما ذكرناه من صلاة الواقف في الماء، إذا لم يجد يبساً؛ لأنه لا يتمكن إلاَّ بما ذكرنا، فسبيله سبيل العليل أنَّه كلما تعذر عليه ركن من أركان الصلاة، تركه إلى ما يمكن، كنحو من يعجز عن القيام إنَّه يصلي قاعداً، ومن(4) عجز عن الركوع والسجود، أومأ، وكذلك الواقف في الماء.
ووجه وقوف الإمام وسط المؤتمين هو: أن ذلك أستر لعورته، وأبعد من أن يقع عليها بصر، وقد بينا أن ستر العورة أوكد من القيام في الصلاة، وكذلك يجب أن يكون مراعاته أوكد من مراعاة الموقف، على أنَّه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن المرأة إذا أمَّت النساء، وقفت وسطهنَّ، فدل ذلك على صحة ما ذهبنا إليه في العراة؛ لأن الغرض في النساء في ذلك أنَّه أمنع من وقوع أبصار المأمومات على مؤخر الآمه، وهذا هو الوجه في موقف إمام العراة في الماء إذا كان صافياً، فأما إذا كان كدراً يستر العورة، فيتقدم الإمام؛ لأن الماء يحجز الأبصار عن إدراك عورته، فلا غرض في تغيير الموقف.
مسألة [ في بيان ما يسجد عليه ]
قال: ويستحب للمصلي أن يضع جبهته على الحضيض، أو على ما أنبتت الأرض، ويكره السجود على المسوح واللبود، إلاَّ أن تدعو الضرورة إلى ذلك.
__________
(1) ـ في (أ): فأراد.
(2) ـ في (ج): وإن كان الماء.
(3) ـ انظر الأحكام 1/122.
(4) ـ في (أ): أو من.(15/18)

59 / 138
ع
En
A+
A-