حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرّ بقبرين فقال: (( إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير(1)، أما أحدهما فكان لا يستنزه ـ أو لا يستتر ـ من بوله، والآخر كان يمشي بالنميمة )). ولا يجوز أن يعذب الإنسان على ترك شيء، إلاَّ إذا كان واجباً، ولا خلاف أنَّه لا يجب لغير الصلاة، فثبت أنَّه يجب للصلاة.
ومنها: حديث عمار بن ياسر، قال: مرّ بي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا أغسل ثوبي من نخامة، فقال: (( إنما تغسل ثوبك من البول، والغائط، والمني، والقيء )).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم في دم الحيض: (( حتيْه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه بالماء ))، فكل ذلك يدل على وجوب تطهير الملبوس، ولا يجب لغير الصلاة، فثبت وجوبه لها.
فأما ما يصلى عليه، فقد مضى فيما تقدم وجوب تطهيره، وبينا أن حكم ما يصلى عليه، وما يصلى فيه بالإتفاق واحد في ملاقاة الجسد، فيجب أن يكون حكمها حكماً واحداً، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ..} الآية[المائدة:90]، يوجب اجتنابها من كل وجه، ومن ذلك اجتنابها أن يكون في موضع الصلاة، وقد مضى فيه ما لا وجه لإعادته.
مسألة [ في نجاسة ما خرج من السبيلين ]
قال: وكل ما خرج من السبيلين من مني، أو مذي، أوغيرهما، فهو نجس يجب تطهير الملبوس، والمصلى عليه، من قليله وكثيره.
وقد نص القاسم عليه السلام على نجاسة المني في (مسائل النيروسي).
__________
(1) ـ في (ب): كبير بهما.(15/9)


ودل كلام يحيى عليه السلام في (المنتخب)(1) على نجاسة المذي، حين يقول: من انتقض طهوره من سيل الدمل أو الرعاف أو القيء أو الريح، أو المذي، أو الدود، أو ما أشبه ذلك، أعاد منه الطهور من أوله، فاقتضى كلامه الابتداء، بتطهير موضعه، على أن تصريحه بأنه ينقض الطهارة في (الأحكام)(2) كالتصريح بتنجيسه؛ لأنَّه لا مذهب إلاَّ مذهب من يرى أنَّه لا ينقض الطهارة، وأنه غير نجس، وهم طائفة من الإمامية، أو مذهب من يروي أنه ينقض الطهارة وأنه نجس.
والذي يدل على نجاسة المني: ما روى ابن المسيب، عن عمار، قال: مر بي رسول اللّه، وأنا أسقي راحلتي، فتنخمت، فأصابتني نخامتي، فجعلت أغسل ثوبي، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : (( ما نخامتك ودموع(3) عينيك إلاَّ بمنزلة واحدة، إنما تغسل ثوبك من البول، والغائط، والمني ـ وهو الماء الغليظ ـ، والدم، والقيء )). ففصل صلى الله عليه وآله وسلم بين ما يجب أن يغسل الثوب منه، وبين ما لا يجب، وإذا ثبت أن المني مما يجب أن يغسل منه الثوب، ثبت أنَّه نجس.
وروي عن عائشة قالت: قال(4) رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا رأيت المني يابساً، فحتيه، فإن كان رطباً، فاغسليه )). والأمر بالغسل يقتضي إيجابه، وهذان الحديثان ذكرهما الجصاص في شرحه بإسناديهما.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا كان يابساً، فحتيه )). يدل على أنَّه غير نجس؛ إذ النجس لا يقتصر فيه على الحت عندكم.
قلنا: قد ثبت أنَّه نجس بقوله: (( اغسليه )). وقوله: (( إذا كان يابساً، فحتيه )) معناه: حتيه مع الغسل؛ لأنَّه إذا كان يابساً، احتاج إلى الحت مع الغسل ليزول، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن كان يابساً، فحتيه، وإن كان رطباً، فاقتصري به على الغسل، وترك لفظة الغسل مع الحت تعويلاً على ما نبه عليه.
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص27.
(2) ـ انظر الأحكام 1/52.
(3) ـ في (أ): ودمع.
(4) ـ في (ج): قال لي.(15/10)


وربما تعلق المخالف لنا بما روي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه سئل عن المني يصيب الثوب؟ فقال: (( أَمطه عنك باذخرة، إنما هو كمخاط(1)، أو بصاق )).. فلا دليل لهم فيه، بل فيه دليل لنا من وجه، وهو أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر(2) بإماطته، ثبتت نجاسته؛ لأن إماطة ما ليس بنجس لا تجب، وأمره صلى الله عليه وآله وسلم يقتضي الإيجاب، وقوله: (( بإذخرة )) وحدها لا يمكن إماطة جميعه، ومن أماط بعضه لا يكون أماطه.
وقوله: (( إنما هو(3) كمخاط، أو بصاق ))، أراد في لُزُوجَتِهِ وشدَّة لصوقته بالثوب، وأنه يحتاج لإزالته إلى فضل(4) معالجة، على أن الحديث قد قيل فيه: إنَّه ضعيف، وقد قيل فيه: إنَّه موقوف على ابن عباس.
ومما يدل على ذلك أنَّه مائع يجري مجرى النجاسة، ولا يخرج إلاَّ مع أجزاء من النجاسة، فلو وجب كونه طاهراً في الأصل، لصار نجساً؛ بجريه مجرى(5) النجاسة.
وقد اعترض هذا الدليل بقوله تعالى: {مِنْ بَينِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً} [النحل:66]، فقالوا: قد أخبر اللّه تعالى أن اللبن يخرج من بين فرث ودم وهما نجسان.
قيل لهم: ذلك غلط، وذلك لا يمتنع أن يكون بين الدم وبينه حائل، والآية لا تدل على أنَّه لا حائل بينهما، على أن ذلك لو ثبت في اللبن، لم يثبت في المني؛ لأنا لا ندعي أن نجاسة ما يجري في مجرى النجاسة عقلاً، فيفسدوا قولنا إذا بين خلافه في موضع من المواضع.
ومما يدل على ذلك من طريق القياس أنَّه سائل من الجسد ناقض للطهارة، فوجب أن يكون نجساً قياساً على البول والغائط، وإن شئنا عللناه بأن نقول: إنَّه خارج من السبيلين، ويمكن أن يقاس على المذي بعلة أنَّه خارج من الذكر للشهوة، ويمكن أن يقاس على دم الحيض بعلة أن خروجه يوجب الغسل.
__________
(1) ـ في (أ): مخاط.
(2) ـ في (أ): أمرنا.
(3) ـ سقط من (أ): إنما هو.
(4) ـ سقط من (أ): فضل.
(5) ـ في (ب) و(ج): في مجرى.(15/11)


فإن قاسوه على اللبن بعلة أنَّه خارج من الجسد تثبت به الحرمة، فيجب طهارته، كان الوصف غير مسلَّم في المني؛ لأن شيئاً من الحرمة لا تثبت به؛ لأنها إما أن تثبت بالوطء أو بما يخلق من المني، فأما بنفس المني، فلا تثبت حرمته، على أن العلة إن صحت، فعلتنا أولى؛ لأنها حاظرة؛ ولأن المني ـ بما ذكرنا ـ أشبه منه باللبن.
فأما من استدل منهم بقول اللّه تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ..}الآية [الإسراء:70]، فقال: تكريمهم يقتضي أنهم مخلوقون من طاهر، فقد أبعد؛ لأن ذلك لا يفهم منه على وجه من الوجوه، ومعناه: كرمناهم بالتكليف والتمكين من استحقاق الثواب العظيم، وما يسر لهم من الأحوال التي لم تيسر لغيرهم من الحيوانات، وما يسخر(1) لهم من سائر الحيوانات وغيرها، على أنَّه لا فضل بينهم وبين من استدل لنجاسة المني بقوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهَيْنٍ}[المرسلات:5]، فلإن كان التكريم يقتضي الطهارة، فالإهانة تقتضي التنجيس.
فإن قيل: روي عن عائشة أنها أضافت رجلاً، فأعطته قطيفة، فاجتنب فيها، فغسلها ثم ردها عليها، فقالت: أفسد علينا ثوبنا، لقد كنت أفرك المني من ثوب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، لا أزيد على ذلك، فدل على أنَّه طاهر؟
__________
(1) ـ في (أ): سخر.(15/12)


قيل له: لا يمتنع أن تكون عائشة أنكرت غسل القطيفة كلها وترك الإقتصار على غسل موضع المني منها، أو أنكرت ذلك في غسل القطيفة كلها خاصة؛ لأن الغالب منها أنها لا تصلي فيها وأنها تكون للنوم فيها، وما يكون خاصاً للنوم لا يؤتى فيه هذه الأشياء للمشقة؛ ولأن العادة كالجارية بذلك، ويجوز أن يكون قولها: كنت أفركه من ثوب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، لا أزيد على ذلك. أرادت به من ثوبه الجاري مجرى القطيفة، على أنَّه يحتمل أن تكون أرادت أنها كانت تفركه مع الغسل، وقولها: لا أزيد على ذلك، أي على موضع النجاسة، وعلى هذا التأويل يجوز أن يكون إنكارها لغسل جميعها من غير فرك.
يدل على صحة ما قدمنا من التأويل:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس بن حسان، حدثنا عبدالله بن المبارك، وبشر بن المفضل، عن عمرو بن ميمون، عن سليمان بن يسار، عن عائشة، قالت: كنت أغسل المني من ثوب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فيخرج إلى الصلاة، وإنَّ بقع الماء لفي ثوبه(1).
فبان أنها كانت تغسله من الثوب الذي كان رسول اللّه يصلي فيه، وتفركه من الثوب الذي كان ينام عليه وفيه.
فإن قيل: روي عنها أنها قالت: كنت أفركه يابساً بأصبعي، ثم يصلي فيه، ولا يغسله.
قيل له: ليس هذا فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عرف ذلك، وصلى فيه، فلا متعلق به.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/49 ـ 50, وفيه: حدثنا يونس قال: حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا عبد الله بن المبارك ..إلخ.(15/13)

58 / 138
ع
En
A+
A-