والوجه فيه أن المساجد أفضل البقاع، فوجب أن تكون الصلاة فيها أفضل، يدل على لك: ما روي من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، اسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساحد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ))، و ـ أيضاً ـ لا خلاف أن المكتوبات في المساجد أفضل منها في البيوت، فكذلك النوافل، والمعنى أنها فعلت في مواضع خصت بالعبادات.
فأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أن النوافل في البيوت أفضل؛ فإنها محمولة على أن الغرض بها الإخفاء؛ لتكون أسلم من الرياء.
مسألة [ في طهارة المكان ]
قال: ولا يصلى في شيء من البقاع إلاَّ أن يكون نقياً من الأقذار.
وقد صرح به في (الأحكام)(1) حين منع من الصلاة في الحمام لما فيه من النجس، ومنها في البيع، والكنائس، لنجس آثار المشركين.
والوجه في ذلك أنَّه لا خلاف في أن المصلي عليه يجب أن يكون مثل المصلى فيه؛ لأن كل ما أوجب طهارة الثوب المصلي فيه، أوجب طهارة مايصلى عليه، فإذا ثبت ذلك، وثبت وجوب طهارة اللباس في الصلاة ـ بما سنبينه من بعد ـ ثبت وجوب طهارة ما يصلى عليه، واستدل القاسم عليه السلام على ذلك بقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِيْنَ وَالْقَائِمِيْنَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[الحج:26].
ويدل على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بتطهير المسجد حين بال فيه الأعرابي، ولم يكن ذلك إلاَّ لأنَّه موضع الصلاة، فثبت بذلك أجمع ماذهبنا إليه.
مسألة [ في الصلاة على طين تحته نجاسة ]
قال: وإن كانت بالوعة أو مثلها قد ردمت، وألقي عليها طين نقي، جازت الصلاة عليها، والعدول عنها أحب إلينا.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب) (2).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/133.
(2) ـ انظر المنتخب ص36.(14/19)


والوجه في ذلك أن المصلي على ما ذكرنا تكون صلاته على الطاهر، فوجب أن تجزيه صلاته، واستحب العدول عنها للقرب من النجس، ألا ترى أنَّه يستحب التنزه(1)، وقال: صلى الله عليه وآله وسلم: (( ادرأوا ما استطعتم )) واستحب الدرأ، وإن كانوا [إن](2) لم يفعلوا ذلك، لم تفسد الصلاة؛ لأنَّه تباعد عما يكره.
مسألة [ ويمنع أهل الذمة من المساجد ]
قال: ويجب أن يمنع أهل الذمة من دخول المساجد.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3).
والذي يدل على ذلك قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامِ}[التوبة:28]، فمنعهم من أن يقربوا المسجد الحرام، فوجب أن تكون سائر المساجد كذلك قياساً عليها(4)، على أن الشافعي يوافقنا على ذلك في المسجد الحرام خصوصاً، فنجعل ذلك معه أصلاً، ونقيس عليه سائر المساجد.
فأما ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أنزل وفد ثقيف في المسجد، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم ربط رجلاً من المشركين إلى سارية من سواري المسجد، فيجوز أن يكون كان ذلك على سبيل الضرورة، ويجوز أن يكون ذلك قبل نزول الآية، على أنا قد بينا أن المشركين أنجاس في مسألة سؤر المشركين، واستقصينا الكلام فيه، فإذا ثبت ذلك، فلا خلاف بين المسلمين في أن المساجد يجب أن تمنع من الأنجاس، فثبت بذلك صحة ما ذهبنا إليه، على أن أبا حنيفة يوافقنا على أن الجنب لا يدخل المسجد، والشافعي يوافقنا على أنَّه لا يبيت فيه، فيجب أن يكون المشرك الجنب كذلك، وإذا ثبت أن المشرك الجنب لا يدخل المسجد، فلا أحد يفصل بينه وبين المشرك الذي ليس بجنب، على أنَّه لا خلاف بين المسلمين أن المساجد يجب إعظامها، بل لا يُعتقد خلاف ذلك، فلا يؤمن أن ينجسها.
__________
(1) ـ في (أ): السترة.
(2) ـ سقط من (أ).
(3) ـ انظر الأحكام 1/135.
(4) ـ في الهوامش: عليه.(14/20)


باب القول في ستر العورة والثياب التي يصلي فيها وعليها
[ مسألة: ويجب ستر العورة ]
يجب على كل مصل أن يستر عورته بثوب طاهر إن أمكنه.
وقال في (الأحكام)(1): "ولا يصلى في ثوب واحد حتى يكون صفيقاً، لا يصف المصلي فيه"، فكان ذلك نصاً في إيجاب ستر العورة. وقال ـ أيضاً ـ: ويصلي العريان جالساً، ويستر عورته، بما قدر عليه من حشيش، أو غير ذلك(2).
فدل ذلك على ماقلناه، ولقوله هذا ما اشترطنا(3) الإمكان، ألا ترى أنَّه أباح للعريان أن يصلي إذا لم يجد الثوب.
والذي يدل على وجوب ستر العورة على المصلي، قول الله تعالى: {يَا بَنِيْ آدَمَ خُذُوا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلَّ مَسْجِدٍ}[الأعراف: 31]، فاقتضى عمومه وجوب أخذ الزينة في حال الصلاة وغيرها، وإذ(4) قد ثبت بالاجماع أن أخذ كل زينة سوى الثياب لايجب، ثبت أن أخذها هو الواجب، و ـ أيضاً ـ تخصيصه بالمسجد دلالة على أن المراد به وجوب ستر العورة من الناس، وإلا لم يكن لتخصيصه بالمسجد معنى.
ويدل على ذلك قول الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر: 3]، وإذ قد ثبت وجوب تطهير الثياب، فقد ثبت وجوب لبسها في الصلاة، إذ لا يجب تطهير مالا يجب لبسه في الصلاة بالاتفاق.
ويدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، عن ابن أبي داود، حدثنا عبيد الله(5) بن معاذ، [حدثنا أُبي](6)، حدثنا شعبة، عن توبة العنبري، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( إذا صلى أحدكم، فليأتزر، وليرتد )) فدل ذلك على وجوب ستر العورة في الصلاة(7).
__________
(1) ـ الأحكام 1/110.
(2) ـ سقطت هذه المسألة من (أ) و(ب).
(3) ـ في هامش (ب): لعل (ما) مصدرية ليستقيم الكلام.
(4) ـ في (أ): إذا.
(5) ـ في (أ): عبد الله
(6) ـ ما بين المعكوفين سقط من (ب).
(7) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/378.(15/1)


وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، عن ابن أبي داود، حدثنا زهير بن عباد، حدثنا حفص بن ميسرة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا صلى أحدكم، فليستتر بثوب، فإن لم يكن ثوب، فليأتز إذا صلى ))(1).
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، عن ابن أبي داود، حدثنا ابن قتيلة، حدثنا الدراوردوي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة بن الأكوع، قال: قلت: يا رسول الله، إني أعالج الصيد، فأصلي في القميص الواحد؟ قال: (( نعم، وزره، ولو بشوكة )).
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( زره ولو بشوكة )) يدل على وجوب ستر العورة في الصلاة؛ إذ لا غرض فيه أكثر من أنَّه لا يأمن أن يبدو شيء من عورته عند الركوع والسجود، إن لم يزره.
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ ما رواه قتادة، عن ابن سيرين، عن صفية بنت الحارث، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( لا يقبل الله صلاة حائض إلاَّ بخمار )). ومعناه التي بلغت الحيض.
وذكر أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى أن القاسم عليه السلام روى هذا: (( لا يقبل الله صلاة امرأة بلغت المحيض إلاَّ بخمار )).
وذكر أبو بكر الجصاص في شرحه (لمختصر الطحاوي)(2)، روي عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( لا يصلِّ أحدكم في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء )) والنهي يدل على فساد المنهي عنه، فثبت أن الصلاة تفسد إذا لم تستر العورة.
مسألة [ في بيان العورة ]
قال: والعورة مادون السرة إلى دون الركبة.
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار بهذا السند 1/377 ـ 378 بلفظ آخر، هذا نصه: (( إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من يزين له، فإن لم يكن له ثوبان فليتزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود )).
(2) ـ في (أ): للطحاوي.(15/2)


قال في (الأحكام)(1): "ولا يصلى في ثوب واحد حتى يكون سابغاً، ينحدر عن الركبتين"، وقال فيه: "إن ائتزر بمئزر فليرفعه إلى قرب السرة"، فظاهر كلامه في هذين الموضعين من (الأحكام) يقتضي أن العورة ما دون السرة إلى الركبة، وأن السرة عندنا ليست من العورة، والركبة من العورة، ولا أعرف خلافاً بين أهل العلم في أن السرة من الرجل ليست بعورة.
وروي عن ابن عمر، عن أبي هريرة، قال للحسن عليه السلام: أرني الموضع الذي كان يقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منك؟ فكشف ثوبه، فقبل أبو هريرة سرته.
وأخبرنا أبو عبدالله النقاش، حدثنا الناصر، عن محمد بن منصور، عن واصل بن عبد الأعلى، عن يحيى بن آدم، عن الحسن بن صالح، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن عبدالله بن جرهد الأسلمي، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( الفخذ من العورة )).
فإذا ثبت أن الفخذ من العورة(2)، ثبت أن الركبة عورة؛ لأن الركبة مجتمع عظم الفخذ، وعظم الساق، فبعضها(3) إذاً من الفخذ، فوجب ستر جميعها؛ إذ لا سبيل إلى ستر بعضها.
وروى بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( كل شيء أسفل من سرته إلى ركبته عورة )).
وذكر ذلك أبو بكر الجصاص في كتابه، فدل ذلك على أن السرة ليست من العورة، ودل على أن الركبة من العورة لوجهين:
أحدهما: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لو قال: كل شيء أسفل من سرته عورة، دل ذلك على أن جميع ما تحت السرة عورة، فلما قال: إلى الركبة، دل ذلك على أن ما عداها ليس من العورة.
والثاني: أن الحد قد يدخل في المحدود، وقد لا يدخل فيه، وكلا الأمرين يحتمل، فوجب تغليب جهة الحظر على جهة الإباحة؛ إذ الحظر أقوى من الإباحة.
مسألة [ في بيان عورة النساء ]
قال: فأما النساء، فيلزمهن ستر جميع أعضائهن خلا الوجه.
__________
(1) ـ الأحكام 1/110.
(2) ـ في (ب) و(ج): الفخذ عورة.
(3) ـ سقاط من (أ).(15/3)

56 / 138
ع
En
A+
A-