وهو منصوص عليه في (المنتخب)(1)، واستدل يحيى عليه السلام على ذلك بقول تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوْهَكُمْ شَطْرَهُ}، أي جانباً منه، قال: والمصلي في جوف الكعبة يكون قد صلى إلى جانب منها، فوجب صحة صلاته.
ويمكن أن يورد ما ذكره عليه السلام على طريق القياس، فيقاس المصلي فيها على المصلي إليها خارجاً منها بمعنى أنَّه مصل إلى جانب منها، وظاهر قوله يدل على أنَّه لا يفصل في ذلك بين الفرض والنفل، كما روي عن بعض الفقهاء، وقد كثرت الروايات في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في الكعبة رواه ابن عمر مطلقاً، وروي عن بلال، وعن أسامة.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، عن فهد، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا شبابة، عن مغيرة، عن مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: (( دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم البيت يوم الفتح، فصلى فيه ركعتين ))(2).
فإن قيل: فقد روى أسامة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل البيت، وخرج، ولم يصل، وصلى خارجاً إليه، وقال: هذا هو القبلة(3).
قيل له: قد روى ابن عمر، عن أسامة، أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى فيه، فيجوز أن يكون صلى في وقت، ولم يصل في وقت، وقوله: هذا هو القبلة إشارة إلى البيت، ومن صلى فيه فقد اتخذ بعضه قبلة على مابيناه(4).
مسألة [ في الصلاة في الحمامات والمقابر والطرق السابلة ]
قال: وتكره الصلاة في الحمامات، والمقابر، والطرق السابلة.
وقد نص على ذلك في (الأحكام) (5)، وذكر أنَّه كره الصلاة في الحمامات لما يماط فيها من القذر، قال: وأما بيوتها التي لا يماط فيها القذر، وتكون طاهرة، فلا بأس بالصلاة فيها.
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص49، 50.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/390. وفيه: عن مغيرة بن مسلم.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/389.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/390.
(5) ـ انظر الأحكام 1/133 ـ 134.(14/14)
قال: وأكره الصلاة في المقابر؛ لكرامة أهلها إن كانوا مؤمنين، وإيثار التجنب لهم إن كانوا فاسقين، وأكره الصلاة في الطرق السابلة لما يلحق الناس من المضرة، وعلى هذا إن كان الطريق واسعاً لا ضرر على أحد من مصلٍ، إن صلى فيه، فالصلاة جائزة(1).
أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، عن زيد بن سنان(2)، وصالح بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الرحمن المقرئ، حدثنا يحيى بن أيوب أبو العباس البصري، عن زيد بن جبير، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر، قال ـ نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة في مواضع فذكر فيها الحمام وقارعة الطريق.
مسألة [ في الصلاة في أعطان الإبل ]
قال: ولا بأس بالصلاة في أعطان الإبل، ودَمَن الغنم، إذا لم يكن فيها قذر من صديد أو دَبَر.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(3)، ومروي عن القاسم عليه السلام.
والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ))(4)، وذلك عام في كل الأرض.
فإن قيل: فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة في أعطان الإبل.
قيل له: في سبب هذا النهي وجهان:
أحدهما: أن العادة جرت لأصحاب الإبل أنهم يتغوطون، ويبولون بين جمالهم، ويستترون بها، فكان النهي ورد لقذر المكان ونجاسته، لا لشيء يختص الإبل.
والوجه الثاني: أن النهي ورد لما في طبع الإبل من الشرود والتمرد، فلم يؤمن أن يكن منها ما يؤدِّي إلى الشغل عن الصلاة، أو قطعها، وعلى هذا يُؤَوَّل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنها خلقت من الشياطين )) وعلى هذا يؤول قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الكلب الأسود: (( إنه شيطان )) أي مؤذٍ.
وفي حديث رافع بن خديج، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن لهذه الإبل أوابدٌ كأوابد الوحش )).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/134.
(2) ـ في (ج): يزيد بن سنان.
(3) ـ انظر الأحكام 1/119.
(4) ـ في (ج) وهامش (أ) و(ب): وترابها طهوراً.(14/15)
يدل على صحة هذا التأويل، وإن الصلاة في معاطنها لم تكره لشيء يرجع إليها، ما أخبرنا(1)به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا محمد بن سعيد(2)، وأبو بكر بن أبي شيبة، قالا: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عبدالله، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي إلى بعيره(3).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا محمد بن سعيد(4)، حدثنا عمرو بن أبي بكر العبدي، حدثنا إسرائيل، عن زياد المصفر، عن الحسن، عن المقدام، قال: جلس عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، والحارث بن معاوية، فقال أبو الدرداء: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين صلى بنا إلى بعير من المغنم، فقال عبادة: أنا. قال: فحدث. قال: صلى بنا رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى بعير من المغنم، ثُمَّ مد يده فأخذ قُرَاداً من البعير، فقال: (( ما يحل لي من غنائمكم مثل هذا، إلاَّ الخمس، وهو مردود فيكم ))(5)، فبان أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكره الصلاة في أعطان الإبل إلاَّ لما ذكرناه، وأنه لم ينه عنها لشيء يرجع إلى الإبل.
مسألة [ في الصلاة في البِيَع والكنائس ]
قال: ولا تجوز الصلاة في البِيَع، والكنائس، لتنجس آثار المشركين، فإن طهرت من ذلك، جازت.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(6).
والوجه في هذا ماقد مضى في كتاب الطهارة من الدلالة على أنهم أنجاس، فإذا ثبت ذلك، ثبت أنَّه لا تجوز الصلاة في مواطنهم مالم تطهر؛ لأنها لا تسلَم من نجاستهم.
مسألة [ في الصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب ]
__________
(1) ـ في (أ): وفي ذلك ما أخبرنا.
(2) ـ في (أ): محمد بن أبي سعيد.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/385، وفيه: عن عبيد الله.
(4) ـ في (أ): محمد بن أبي سعيد.
(5) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/385، وفيه: يحيى بن أبي بكير العبدي.
(6) ـ انظر الأحكام 1/135.(14/16)
قال القاسم عليه السلام: ولا تجوز الصلاة في الأرض المغصوبة، ولا في الثوب المغصوب.
وهذا منصوص عليه في كتابه المسمى بـ(كتاب الصلاة).
والذي يدل على ذلك أنَّه قد ثبت أن الكون في الأرض المغصوبة مع التمكن من الخروج منها معصية، وثبت أن الصلاة قربة، فثبت أن الذي يقع من الكائن في الدار المغصوبة من الصلاة على الوجه الذي بينا لا يكون صلاة.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ذلك معصية من وجه، وطاعة من وجه، فلا يجب أن يكون معصية قربة؟
قيل له: هذا لا يصح، وذلك أن الفعل لا يخلو من أن يقع على وجه يقبح، أو يقع على وجه لا يقبح، فإن وقع على وجه يقبح، لم يجز أن يكون طاعة؛ لأن الله تعالى لا يأمر بما يقبح على بعض الوجوه، وإن وقع على وجه [لا يقبح على بعض الوجوه](1)، لم يجز أن يكون معصية؛ لأن الله تعالى لا ينهى عما ليس بقبيح، فثبت فساد قول من يقول: إنَّه معصية من وجه، وطاعة من وجه.
فإن قيل: قد حصل الإجماع على خلاف مذهبكم.
قيل له: لا معنى لادعائكم الإجماع؛ لأن المسألة خلافية؛ ولأن الإجماع لا يجوز أن ينعقد على مايفسد وتتناقض، وقد بينا أن كون الإنسان في الدار المغصوبة معصية، وأن الصلاة قربة، وأن المعصية لا يجوز أن تكون قربة.
فإن قيل: ما أنكرتم أن الإجماع يجوز أن ينعقد على وجه يصح، وهو أن يجمعوا على أن ما يقع ممن في الدار المغصوبة من الصلاة، وإن كانت معصية يسقط الفرض؟
قيل له: هذا فاسد، وذلك أن الإجماع قد حصل أن المصلي يجب أن ينوي أداء الصلاة الواجبة، أو المندوبة، وذلك لا يصح إلاَّ مع اعتقاد وجوبها، أو ندبها، والمعصية لا يجوز أن يُعتقد فيها الوجوب، ولا الندب، فبان أن ما ادعيتموه من ذلك فاسد.
فإن قيل: فأنتم تذهبون إلى أن الذبح بالسكين المغصوب جائز، فما الفرق بين ذلك وبين الصلاة في الأرض المغصوبة؟
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين في (أ).(14/17)
قيل له: الفصل بينهما أن الذابح لم يؤخذ عليه أن يكون الذبح قربة، وإنما أخذ عليه أن يقطع المذبح على الوجه المخصوص، ألا ترى أنه يصح ممن لا يتقرب كالذي لم يبلغ، فلم يمتنع أن يكون الذبح معصية، ومع ذلك يذكى، وليست الصلاة كذلك؛ لأن الصلاة لا تكون إلاَّ قربة، والمعصية لا تكون قربة.
فإن قاسوها على الصلاة في الأرض التي لم تغصب كان هذا القياس ساقطاً؛ لكونه مؤدياً إلى فساد الأصول، على أنَّه يمكن أن يعارضوا بقياسها على الصلاة في الأرض النجسة، بمعنى أنَّه منهي عن الصلاة عليها، ويكون قياسنا أولى؛ للحظر، والاحتياط.
وأما الثوب المغصوب، فهو مقيس على الثوب النجس، بمعنى أنَّه نهي الذكر والأنثى عن الصلاة فيه مع السلامة، فكل ثوب يكون كذلك، لم تجز الصلاة فيه.
وروى الناصر عليه السلام في كتاب (الإمامة) عن بشر بن عبدالوهاب يرفعه إلى ابن عمر: قال: لو أن رجلاً، كانت له تسعة دراهم من حلال، فضم إليها درهماً من حرام، فاشترى بها ثوباً، لم يقبل الله منه فيه صلاة.
فقيل له: سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرات.
وهذا كالصريح لما ذهب إليه القاسم عليه السلام في الثوب؛ المغصوب إذ الثوب المغصوب، أسوأ حالاً من الثوب الذي اشتري بمال فيه حرام.
مسألة [ وأفضل البقاع لها المساجد ]
قال: وأفضل البقاع لها المساجد.
وهذا مما ذكره أبو العباس الحسني رحمه الله في كتابه المسمى بـ(النصوص)، أن محمد بن القاسم رواه، عن أبيه القاسم عليه السلام.(14/18)