وقد نص على ذلك في (الأحكام) و(المنتخب)(1)، وقال: "وليدرأ المسلم عن نفسه ما استطاع".
واستدل على ذلك:
بما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا الناصر عليه السلام، عن محمد بن منصور، قال: حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنزة يتوكأ عليها، ويغرزها بين يديه إذا صلى، فصلى ذات يوم ـ وقد غرزها بين يديه ـ فمر بين يديه كلب، ثُمَّ مر حمار، ثُمَّ مرت امرأة، فلما انصرف قال: (( رأيت الذي رأيتم، وليس يقطع صلاة المسلم شيء، ولكن ادرأوا ما استطعتم )).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن محمد بن عمر، عن عباس بن عبيدالله بن عباس، عن الفضل بن العباس، قال: زارانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بادية لنا، ولنا كليبة(2) وحمار يرعيان، فصلى العصر وهما بين يديه، فلم يُزجرا، ولم يُؤخرا(3).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، عن ابن مرزوق، حدثنا معاذ بن فضالة، حدثنا(4) يحيى بن أيوب، عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام.. فذكر بإسناده مثله(5).
فإن قيل: فقد روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( لا يقطع الصلاة شيء إذا كان بين يديك حاجزة الرحل )). وقال: (( يقطع الصلاة المرأة، والكلب الأسود، والحمار )).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/118. والمنتخب ص47.
(2) ـ في (ب) : حليبة.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار1/459، وفيه: عباس بن عبد الله.
(4) ـ في (أ): حدثني.
(5) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/460.(14/9)
قيل له: هذا يجب أن يكون منسوخاً بما رويناه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ألا ترى إلى قوله: (( رأيت الذي رأيتم، وليس يقطع صلاة المسلم شيء )) . ومن المعلوم أنَّه لم يقل لهم ذلك إلاَّ وقد علم أنهم اعتقدوا في هذه الأشياء أنَّها تقطع الصلاة؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم بعيد أن يُعَرفهم ما لا يقطع الصلاة؛ لأنَّه أكثر من أن يحصى، فلم يشر إلى ما أشار إليه عليه السلام، إلاَّ والحال ما ذكرنا، ولا يجوز أن يكونوا اعتقدوا شيئاً معقولاً إلاَّ الشرع قرع أسماعهم، إذ لا مسرح للعقل في ذلك، فثبت بما بينا أن خبرهم متقدم، وخبرنا متأخر.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب: أن مالكاً أخبره عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه(1)، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( إذا كان أحدكم يصلي، فلا يَدَعَنَّ أحداً يمر بين يديه، وليدرأ ما استطاع، فإن أبى، فليقاتله، فإنما هو شيطان ))(2).
فدل ذلك على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك حين كانت الأفعال في الصلاة مباحة؛ لأنَّه أمر بأن يقاتل المصلي، وهو في الصلاة، فبان بذلك ـ أيضاً ـ تقدم خبرهم.
وروي ـ أيضاً ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بالليل، وبين يديه بعض نسائه.
والنظر ـ أيضاً ـ يدل على مانذهب إليه؛ لأن سائر الحيوانات لا تقطع صلاة المسلم بالاتفاق، فكذلك يجب أن يكون الكلب الأسود، والحمار، والمرأة.
وأما الخط ـ أيضاً ـ فإنه حاجز، وإن كان دون السترة، فلذلك قال يحيى عليه السلام(3): إنَّه إن لم يجد السترة يخط بين يديه خطاً.
مسألة [ في الصلاة إلى الأقذار ]
قال: ويكره أن يصلي الرجل إلى الأقذار، فإن حالت الجدر بينه وبينها، لم يكره.
__________
(1) ـ سقط من (ب) أبيه.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/460.
(3) ـ انظر الأحكام 1/118.(14/10)
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(1).
واستدل على ذلك القاسم عليه السلام بقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِيْنَ وَالْعَاكِفِيْنَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}(2)، و ـ أيضاً ـ قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( ادرأوا ما استطعتم ))، وغرزه بين يديه العنَزة يدل على أن المصلي يجب أن يراعي حال ما يصلي إليه، فإذا ثبت ذلك، ثبت أنَّه يكره أن يصلي الإنسان إلى الأقذار، فإن حالت الجدر بينه وبينها، فإن الصلاة لا تكره؛ لأن المصلي لا يكون مصلياً إلى الأقذار، وإنما يكون مصلياً إلى الجدر الطاهرة.
مسألة [ في الصلاة في فوق نشز أمامه نجس في منخفض ]
قال: ويكره أن يصلي فوق نشز من الأرض، وأمامه نجس في موضع منخفض عنه، فإذا صلى في موضع منخفض إلى النشز، وفوقه نجس، لم يكره.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(3).
والوجه فيه أنَّه إذا صلى على نشز، وأمامه في موضع منخفض نجس يكون قد صلى إليه إذا قابله(4) بوجهه، فأما إذا كان المصلي في موضع منخفض وراء النشز، وفوق النشز نجس، فلا يكون صلى إلى النجس إذ ما يقابل وجهه هو النشز، فلهذا كره الأول، ولم يكره الثاني، وهذا إذا كان النشز فوق قامته؛ لأنَّه إذا كان دون قامة(5)، وكان النجس فوقه كان متوجهاً إلى النجس.
مسألة [ في التوجه إلى ما عليه تماثيل حيوان ]
قال: ويكره أن يتخذ قبلة ما عليه تماثيل الحيوان، قال في (المنتخب)(6) فيمن صلى في بيت فيه تماثيل تشبه الناس والدواب: "إذا كان الموضع الذي استقبله إلى قدر رأسه نقياً من ذلك، جازت صلاته فيه". فنبه أن ما يكره من التماثيل هي تماثيل الحيوان، والوجه في ذلك:
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص36.
(2) ـ جواب الآية في سورة الحج آية 26.
(3) ـ انظر المنتخب ص37.
(4) ـ في هامش (ب): إذ قد قابله بوجهه.
(5) ـ في (ب) و(ج): لو كان دون قامته.
(6) ـ انظر المنتخب ص37.(14/11)
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا محمد بن أبي الرزين، حدثنا محمد بن مسلم(1)، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها جعلت ستراً فيه تصاوير إلى القبلة، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزعته، وجعلت منه وسادتين، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجلس عليهما.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئيب، عن الحارث بن عبدالرحمن، عن كريب مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه دخل الكعبة فرأى فيها صوراً فأمرني بدلو من ماء، فجعل يضرب به الصور، وهو يقول: قاتل الله قوماً يُصَوِّرون ما لا يخلقون.
فإن قيل: فالحديث ورد في الصور عاماً، فلم خصصتم منه صور ماليس بحيوان؟
قيل له: لما رواه الطحاوي يرفعه إلى أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( جاءني جبيريل فقال لي: يا محمد أتيتك البارحة، فلم أستطع أن أدخل البيت؛ لأنَّه كان في البيت تمثال رجلٍ، فَمُر بالتمثال فليقطع رأسه حتى يكون كهيئة الشجرة )). فدل هذا الخبر على أن تمثال ما ليس بحيوان غير مكروه.
مسألة [في الصلاة فوق ظهر الكعبة]
قال: ولا يجوز للرجل أن يصلي فوق ظهر الكعبة إذا كان سجوده على آخر حرف منها، فإن لم يكن على آخر حرف منها، جاز، تخريجاً.
__________
(1) ـ في (أ) و(ب): محمد بن أبي مسلم.(14/12)
قال في (المنتخب)(1): "ولا أحب لأحد أن يصلي فوق الكعبة، ولا أراه؛ لأنَّه لم يتوجه إلى شيء من جدرها، ولم يجعل قبلته شيئاً منها". فكان ظاهر كلامه أنَّه منع من الصلاة فوقها؛ لأنَّه غير مصلٍ إلى شيء من جدرها(2)، وأنه متى صلى إلى شيء منها، جازت صلاته، وقد ثبت من مذهبه أنَّه يرى أن المصلي إذا كان أمامه شيء يكون مصلياً إليه، وإن كان في مكان منخفض؛ (لأنه عليه السلام قد قال: وأكره الصلاة فوق النشز إذا كان أمام المصلي في مكان منخفض)(3) نجس لا يكون مصلياً إليه، فإذا ثبت ذلك، فمن المعلوم أن من صلى فوق الكعبة، ولم يكن سجوده على آخر حرف منها يكون أمامه شيء من الكعبة، فإذا كان أمامه شيء من الكعبة، فيجب أن تكون صلاته على قوله عليه السلام مجزية، فلذلك قلنا ماقلناه.. تخريجاً.
والدليل على صحة ذلك قول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة:144]، ومن المعلوم أن الساجد على آخر حرف فيها لا يكون اتخذ شيئاً منها قبلة، وأن الساجد وراء ذلك يكون متخذاً شيئاً منها شيئاً قبلة.
فإن قيل: فإن الساجد على آخر الحرف إذا قام، أو جلس، يكون أمامه منها شيء، وهو الموضع الذي يسجد عليه.
قيل له: هذا صحيح، ولكن المصلي مأخوذ عليه التوجه إلى القبلة في جميع أحواله إذا تمكن من ذلك، فإذا ترك الاستقبال في بعض أركان الصلاة لغير عذر، بطلت صلاته.
فأما ما روي من النهي عن الصلاة فوق ظهر الكعبة، وهو حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة في سبعة مواطن، فذكر فوق ظهر البيت الحرام، فهو محمول على آخر جزء منه.
مسألة [ في الصلاة في الكعبة ]
قال: ولا بأس بالصلاة في جوف الكعبة.
__________
(1) ـ المنتخب ص50.
(2) ـ في (ب) و(ج): منها.
(3) ـ ما بين المعكوفين في (ج).(14/13)