وهذا الحديث ذكره الجصاص في (شرح مختصر الطحاوي) بإسناده، وذكر فيه ـ أيضاً ـ أنَّه روي عن عاصم بن عبيدالله بن عبدالله بن عامر بن ربيعة، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، ثُمَّ أصبحنا، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}[البقرة:115]، فلما لم يأمرهم صلى الله عليه وآله وسلم حين علموا بالخطأ بعد مضي الوقت، اتبعنا وقلنا: لا إعادة بعد الوقت.
فإن قيل: فقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}[البقرة:115]، يوجب سقوط الإعادة قبل الوقت وبعده.
قيل له: ظاهر الآية لا يوجب سقوط الإعادة، لا في الوقت ولا بعده(1)، وإنما علم أن لا إعادة بعد الوقت؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهم بها، ولما نزلت الآية عند ذلك، علمنا أن المراد بها سقوط الإعادة في الموضع الذي نزل فيه، ولم يجب حمله على العموم؛ إذ لا ظاهر له.
فإن قيل: يلزمكم في الجنب إذا صلى ناسياً أن تقيسوه على من أخطأ القبلة، كما قستم عليه من توضأ بماء نجس وهو لا يعلم، وكذلك يلزمكم أن تقيسوا عليه من أخطأ فصلى قبل الوقت.
__________
(1) ـ في (أ): لا قبل الوقت ولا بعده.(14/4)


قيل له: ليس يلزم ما ذكرت، وذلك أن الجنب يصير إلى رفع الجنابة باليقين [وكذلك الوقت يصير إليه المصلي باليقين](1)، فلم يجب أن يكون حكمه(2) حكم من أخطأ القبلة؛ لأن الذي أخطأ القبلة يصير إليها بضرب من الاجتهاد، ولهذا قسنا عليه من تطهر بماء نجس وهو لا يعلم، أنَّه(3) لا يصير إلى طهارة الماء إلاَّ بالاجتهاد دون اليقين والقطع، ومن الفرق بينهما أن القبلة مع الغيبة عن الكعبة طريقها الاجتهاد، وقد ثبت أن من أخطأها، لا يعيد الصلاة، إذا علم بالخطأ بعد الوقت للأثر الذي بيناه، فوجب أن يكون ذلك سبيله سبيل من تطهر بماء نجس، وهو لا يعلم ذلك، ثُمَّ علم به بعد الوقت، هذا إذا كان الماء مختلفاً في نجاسته، ولم يجب أن يكون سبيل الجنب أو المحدث إذا صلى ناسياً، ثُمَّ علم به بعد الوقت ذلك السبيل، وكذلك من صلى الظهر قبل الزوال وهو لا يعلم؛ لأن ذلك ـ أجمع ـ طريقه النص، وما يجري مجرى النص مما يوجب القطع.
واستدل بعض أصحابنا على ذلك بأن قال: إن التحري هو للإلتباس والوقت(4)، ألا ترى أنَّه لا وجه للتحري إذا لم يكن التباس؟ وكذلك لو كان الوقت ممتداً، لكان يترك الصلاة إلى أن يعاين، ولا يتحرى، فإذا ثبت ذلك فمضى الوقت مع الالتباس؛ يوفر أسباب التحري، فإذا علم الخطأ ـ والوقت باق ـ فأسباب التحري غير موفرة، وتجب الإعادة.
مسألة [ في تنفل المسافر على راحلته ]
قال: والمسافر يتنفل على ظهر راحلته أينما توجهت به.
وهذا قد نص عليه في (الأحكام)(5) عند ذكره صلاة الليل، قال: "إن كان في محمل حوَّل وجهه نحو القبلة، وإن كان على الراحلة صلى حيث توجهت، وقال: فإذا جاءت الفريضة فالأرض إلاَّ من بلاء عظيم وخوف جسيم".
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين زيادة في (ج).
(2) ـ في (ج): حكمها.
(3) ـ في (ج): لأنه.
(4) ـ في (ب): هو الإلتباس للوقت.
(5) ـ انظر الأحكام 1/144.(14/5)


وأجاز القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي) الوتر على الراحلة، وقال: لأنها سنة، وليست بفريضة.
واستدل يحيى عليه السلام على ذلك بما رواه محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، هل أصلي على ظهر بعيري؟
قال: (( نعم. حيث توجه ـ في النوافل ـ بك بعيرك إيماء، ويكون سجودك أخفض من ركوعك، فإذا كانت المكتوبة، فالقرار القرار )).
وقد قدمنا في مسائل الوتر سائر ما روي في ذلك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن أمير المؤمنين عليه السلام.
وأما قول يحيى عليه السلام أنَّه إن كان في محمل حول وجهه نحو القبلة، فإنه قال ذلك لقول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوْهَكُمْ شَطْرَهُ}، فكان هذا الظاهر يقتضي أن يكون كل مصل يتوجه إلى القبلة، فلما ورد الأثر في جواز فعل النوافل على الرواحل للعذر ـ لما(1) يلحق من المشقة لو رام التوجه عليها ـ قال به، وخص الظاهر، فلما وجد راكب المحمل لا يشق عليه تحويل وجهه إلى القبلة، شبهه بمن على الأرض.
وظاهر قول يحيى عليه السلام يدل على أنَّه لا يفصل بين التكبيرة الأولى وغيرها في أنها تجوز إلى حيث توجهت الراحلة، وعليها يدل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سأله السائل: هل أصلي على ظهر بعيري؟ قال: (( نعم. حيث توجه بك بعيرك ))، فلم يستثن التكبيرة الأولى من غيرها، وكذلك سائر ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب.
فإن قيل: روى عمرو بن أبي الحجاج، عن الجارود بن أبي سبرة، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع بصلاة، استقبل بناقته القبلة، فكبر وصلى حيث توجهت الناقة به.
__________
(1) ـ في (ا) و(ب): الرواحل ولما.(14/6)


قيل له: هذا فعل، ولا يدل على أنَّه لا يجزي سواه، على أنَّه محمول عندنا على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك في حال لم يكن عليه فيها مشقة، فيكون سبيله سبيل من في المحمل؛ لأنَّه لما لم يكن عليه مشقة في تحويل وجهه إلى القبلة، قلنا: إنَّه يحول وجهه إليها، فكذا القول في التكبيرة الأولى إذا كانت في حال لا مشقة عليه في تحويل وجهه عندها إلى القبلة، لا لأمر يرجع إلى الفصل بين التكبيرة الأولى وغيرها، بل للفصل بين حال المشقة وغير المشقة.
مسألة [ في صلاة راكب السفينة ]
قال: ومن كان في السفينة صلى كيف ما أمكنه قائماً، أو قاعداً، ولا يصلي قاعداً، وهو يمكنه القيام، ويتوجه إلى القبلة، ويدور إليها بدوران السفينة ما أمكنه، فإن لم يمكنه، أجزأه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1)، حيث يقول: "وصاحب السفينة يصلي على قدر ما يمكنه، ويجد السبيل إليه". فكان كالتصريح بأن من وجد السبيل إلى القيام، لم يجزه دون(2) ذلك.
وقال فيه: "إنَّه يتتبع القبلة، ويدور لها بدوران السفينة"(3). والمراد به الفرض؛ إذ لا خلاف في أن النفل يجوز أن يؤديه قاعداً من قدر على القيام في جميع الأحوال.
وذهب بعض الفقهاء إلى أنَّه يجوز له أن يصلي قاعداً، وإن أمكنه القيام.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/122.
(2) ـ في (أ) و(ب): غير.
(3) ـ انظر الأحكام 1/122.(14/7)


والوجه لصحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {وَقُوْمُوا لِلَّهِ قَانِتِيْنَ}[البقرة:238]، فأمر بالقيام، ولم يخص حالاً دون(1) حال، ـ وأيضاً ـ فلا خلاف أن من صلى على البر قاعداً وهو يقدر على القيام أنَّه لا تجزئه صلاته، فكذلك من صلى في السفينة وهو يقدر على القيام، والعلة أنَّه ترك القيام مع القدرة عليه على ما أمر به، ـ وأيضاً ـ فإن القيام مقيس على الركوع والسجود في الفرض؛ لأنَّه ركن من أركان الصلاة كالركوع والسجود (فكما لا يجوز له ترك الركوع والسجود)(2) مع التمكن منهما، فكذلك القيام.
فإن قاسوه على النوافل؛ بعلة أنها تفعل وهي سائرة، كان قياسنا أولى؛ لأن الفرض أشبه بالفرض، وإن كانت الصلاة بعضها ببعض أشبه من الفرض بالنفل؛ ولأن الاحتياط مع قياسنا، وكذلك الحظر.
فإن قالوا: فإن الحال حال العذر، فله أن يترك القيام مع التمكن منه كالمسافر لما كان حاله حال العذر، جاز له ترك الصيام(3) مع التمكن منه.
قيل له: هذا فاسد بالمريض، وذلك أن حاله ـ أيضاً ـ حال العذر، وليس له أن يترك القيام مع التمكن منه.
فإن قيل: إنَّه يخشى من دوران الرأس على راكب السفينة.
قيل له: إن غلب في ظنه أنَّ ذلك يؤديه إلى الضرر، جاز له أن يصلي قاعداً؛ لأنَّه في حكم من لا يمكنه القيام، وإنما الخلاف بيننا وبينكم إذا أمن ذلك، ألا ترى أن العليل إذا خاف ضرراً من القيام، جاز له أن يصلي قاعداً، وليس له ذلك إذا أمن.
مسألة [ في السترة لمن صلى في فضاء الأرض ]
قال: ويستحب لمن صلى في فضاء من الأرض أن يجعل أمامه سترة، فإن لم يجد، فلا بأس أن يخط بين يديه خطاً، قال: ولا يقطع صلاته ما مر بين يديه من كلب، أو حمار وغيره.
__________
(1) ـ في (أ) و(ب): من.
(2) ـ ما بين المعكوفين في (ج) وهامش (ب).
(3) ـ في (ب): القيام، وفي هامشه: لعله التمام.(14/8)

53 / 138
ع
En
A+
A-