قيل له: إن هذا لا يدل على نسخ ما ذكرنا من جواز الإيتار على الراحلة، وذلك أن الإيتار على الأرض لا يمنع من جواز الإيتار على الراحلة؛ لأنَّه لا يمتنع أن يكون الإنسان يأخذ بالأشد في العبادة مع علمه بجواز الأسهل، بين ذلك:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا علي بن معبد، حدثنا عبدالله بن عمر، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان ابن عمر يوتر على راحلته، وربما نزل فأوتر على الأرض(1).
فأما أمير المؤمنين عليه السلام فقد بينا ما رويناه من قوله: "إن الوتر ليس بفرض، وأنه سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".
فدل ذلك على أن نزوله إلى الأرض للإيتار، كان على الأخذ بالأفضل، لا على أنَّه لم يجز سواه.
فإن استدلوا على وجوبه بما روي من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن الله زادكم صلاة وهي الوتر )).
قيل له: ذلك لا يدل على الوجوب ؛ لأنه يجوز الزيادة في النوافل المؤكدة المحصورة بالأعداد والأوقات كما يجوز في الفرائض.
فإن استدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( اجعلوها بين العشاء والفجر ))، وقوله: (( أوتروا يا أهل القرآن )).
قيل لهم: ما قدمناه من الأدلة يدل على أن هذا الأمر على الندب.
فإن استدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الوتر حق، فمن لم يوتر، فليس منا )).
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/430، وفيه: عبيد الله بن عمرو بدلاً عن عبد الله بن عمر.(13/7)
قيل له: أما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الوتر حق )) فليس يتناول موضع الخلاف؛ إذ لا خلاف في أنَّه حق، وإنما الخلاف في أنَّه نفل، أو واجب، واسم الحق يجمعهما، وقوله: (( فمن لم يوتر فليس منا )). معناه من لم يوتر راغباً عنه، ومستهيناً به بالأدلة التي بيناها، وبدلالة قوله: (( الوتر حق ))؛ لأنَّه لما أثبت كونه حقاً، وتوعد من لم يفعله كان الظاهر من الكلام أن التوعد لمن لم يفعله معتقداً أنَّه ليس بحق.
فإن قاسوه على الواجبات من الصلوات بكونه مؤقتاً، كان ذلك منتقضاً بصلاة العيدين، وبركعتي الفجر، على أنا نقيسها على النوافل؛ بعلة أنَّه لا أذان فيه ولا إقامة.
فأما ما يدل على أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة فهو ما أثبتناه عند ذكرنا وقت ركعتي الفجر من حديث عامر الشعبي، قال: سألت ابن عباس، وابن عمر كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالليل؟ فقالا: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، ثمان ويوتر بثلاث، وركعتين بعد الفجر(1).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن خزيمة، حدثنا عبدا لله بن رجاء، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوتر بثلاث يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} وفي الثالثة بـ{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}(2).
وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا محمد بن بشر العبدي، والخفاف، قالا: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام بن عامر، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يسلم في ركعتي الوتر.
__________
(1) ـ تقدم تخريجه.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/288.(13/8)
وأخبرنا أبو الحسين، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا زيد ابن الحباب، عن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن مولى طلحة، عن أبي سلمة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يوتر بثلاث.
وأخبرنا أبو الحسين، حدثنا محمد بن الحسين حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا أبو أسامة، عن مالك بن مغول، عن سلمة بن عبد الرحمن، عن زاذان، أن علياً عليه السلام كان يوتر بثلاث.
وأخبرنا أبو الحسين، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا الحسن بن موسى، ووهب عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال: كان أصحاب علي، وعبد الله لا يسلمون في ركعتي الوتر.
وأخبرنا أبو الحسين، أخبرنا ابن اليمان، حدثنا ابن شجاع، حدثنا معلى، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة حدثه، عن محمد بن داود، عن محمد بن كعب، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البتيراء، وهي أن يوتر الرجل بركعة واحدة.
فإن استدلوا بما رويناه قبل هذا الموضع من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة )).
قيل لهم: معناه أضف إلى الركعتين ركعة ليكون وتراً، بدلالة الأخبار المشروحة التي بيناها، ولما روينا من النَّهي(1) عن البتيراء.
فإن قيل: فقد روى ابن عمر(2)، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( الوتر ركعة من آخر الليل )).
قيل له: هذا محمول على أن الشفع يصير وتراً بركعة على ما قلناه في قوله عليه السلام: "فأوتر بركعة"، أو يكون منسوخاً لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن البتيراء، وذلك(3)؛ لأن النهي يدل على أن الأمر به كان قد تقدم، وأنه كان قد عرف وعهد لولا ذلك، لكان يبعد النهي عنه.
__________
(1) ـ في (ب): نهيه.
(2) ـ في (أ): روي عن عمر.
(3) ـ في (ج): عن البتيراء إذ ذلك أولى.(13/9)
هذا وأخبرنا أبو الحسين، حدثنا ابن اليمان، حدثنا ابن شجاع،حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن ابن عمر، قال: الوتر ثلاث كصلاة المغرب.
فدل هذا على أن الخبرين على ما ذكرناهما؛ لأنهما مرويان، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ويؤيد ما ذهبنا إليه أنا لم نجد شيئاً من الصلوات ركعة واحدة، وروي عن ابن مسعود، أنَّه قال: ما أجزت ركعة واحدة قط، وهذا هو قول القاسم والناصر، وأحمد بن عيسى عليهم السلام.
وأما ما يدل على أن القنوت في الوتر بعد الركوع فهو:
ما رواه محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، أنَّه كان يقنت في الوتر بعد الركوع(1)، على أنَّه قد روي عنه عليه السلام أنَّه قنت قبل الركوع، إلاَّ أن أصحابنا اختاروا ما رويناه أولاً؛ لأن القنوت عندنا مستحب أن يكون بآية من القرآن، فلو جعلناه قبل الركوع، وكنا وصلناه بالقراءة، فلم يكن يتميز القنوت عن القراءة، وإذا جعلناه بعد الركوع تميز كل واحد منهما من صاحبه.
مسألة [ في كيفية الصلاة المستحبة في آخر الليل ]
قال: ويستحب لمن قدر ألاَّ يترك ثماني ركعات في آخر الليل، يسلم في كل ركعتين منها، وما عداها من النوافل فخير موضع يستكثر منها من شاء.
استحباب هذه الركعات منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(2)، وما ذكرناه من أن ماعدا ذلك من النوافل يستكثر منها من شاء منصوص عليه في (المنتخب)(3).
__________
(1) ـ في (أ): قبل الركوع.
(2) ـ انظر الأحكام 1/143. والمنتخب ص56.
(3) ـ انظر المنتخب ص49.(13/10)
واستدل في الأحكام بما رواه محمد بن منصور، عن علي ومحمد ابني أحمد بن عيسى، عن أبيهما عليهم السلام، عن حسين، عن أبي خالد، عن أبي هاشم، عن زاذان، عن سلمان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( من صلى ثماني ركعات من الليل، والوتر يداوم عليهن حتى يلقى الله بهن، فتح الله له اثني عشر باباً من الجنة يدخل من أيها شاء )).
ويدل على ذلك ما قدمناه من حديث الشعبي، عن ابن عباس، وابن عمر، أنَّه لما سألهما كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالليل؟
فقالا: ثمان ركعات، ويوتر بثلاث، وركعتين بعد الفجر، فأما ما ذكرناه من أن سائر النوافل يستكثر منها من شاء، فلا خلاف فيه، وعلى ذلك مضى الصالحون من أهل البيت عليهم السلام وغيرهم.
مسألة [ وتكره الصلاة في ثلاثة أوقات ]
قال: ولا تكره الصلاة في شيء من الأوقات إلاَّ في ثلاثة: حين طلوع الشمس إلى ارتفاعها، وحين استوائها إلى زوالها، وحين غروبها إلى ذهاب شعاعها، فإن كان على الرجل قضاء فوائت من الفروض، لم تكره في هذه الأوقات أيضاً.
ما ذكرناه من كراهة الصلاة في هذه الثلاثة الأوقات منصوص عليه في كتاب الجنائز من (الأحكام) و(المنتخب)(1) جميعاً.
وما ذكرناه من أن قضاء الفوائت من الفروض غير مكروه فيها قضاءه دل عليه قوله في (الأحكام)(2) في الناسي للصلاة أن "عليه إعادتها عند ما يكون من ذكره لها" من غير أن يستثني شيئاً من الأوقات.
فأما ما يدل على صحة ما نذهب إليه من أن هذه الصلاة تكره في هذه الأوقات الثلاثة، فهو:
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/165. والمنتخب ص56.
(2) ـ ما بين المعكوفين سقط من (أ). وانظر الأحكام 1/120.(13/11)