فقد قيل في جواب هذا: إن الطهور في هذا الموضع هو اسم الفاعل، فلا يجب أن يكون محمولاً على المبالغة. وهذا فيه نظر، وذلك أن اسم الفاعل منه مطهر، فالأقرب أن يكون الطهور موضوعاً للمبالغة، وقد قيل: إن كل جزء منه لما كان له حظ في التطهير أُجري اسم المبالغة عليه، وأكثر ما فيه أن يكون ما ادعوه في ظاهرها صحيحاً، فغير ممتنع أن تصرف عن ظاهرها بالأدلة التي قدمناها، بل ذلك هو الحكم في جميع الظواهر.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، اغتسل فبقيت لمعة من جسده، فأخذ الماء من بعض شعره ومسحها به، فهذا يدل على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم استعمل الماء المستعمل.
قيل له: عندنا أن الماء لا يصير مستعملاً حتى يفارق العضو، وحكم جميع البدن في الاغتسال حكم العضو الواحد، والماء لا يصير مستعملاً بأن يساق من موضع في(1) العضو إلى موضع آخر منه، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذاً لم يستعمل الماء المستعمل، وهذا الجواب يصح أن يُجاب به على من زعم أن الماء المستعمل لو كان لا يجوز التطهر به، لكان لا يجوز أن يوضع على اليد، ثم ينقل إلى المرفق، أو على الجبهة، ثم ينقل إلى أسفل الوجه؛ إذ قد بينا أن الماء لا يصير مستعملاً حتى يفارق العضو.
فإن قيل: قد روي أن المسلمين كانوا يتمسحون بفضل وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل التبرك.
قيل له: عن هذا جوابان:
أحدهما: أنَّه يجوز أن يكونوا تمسحوا بما فضل عنه دون ما تساقط عن أعضائه، وهو فعل لا يدعى فيه العموم.
والثاني: أنَّه وإن سُلِّم(2) أنَّه أريد به المتساقط من أعضائه، فليس في الخبر أن الناس توضؤوا به رافعين للحدث، وهذا إنما يَحُجُّ من ادعى تنجيسه.
فصل [في تنجيس المستعمل ]
__________
(1) في (ب) و(ج): من.
(2) في (ج): علم.(2/15)


ليس ليحيى بن الحسين عليه السلام نص في تنجيس الماء المستعمل، مع أنَّه قد ذكره، ومنع التوضئ به، فالأقرب أنَّه كان يذهب إلى أنَّه طاهر؛ إذ لو كان عنده نجساً، لذكر تنجيسه، فكان يكتفي به عن ذكر المنع من التطهر به، وكان أبو العباس الحسني يخرج تنجيسه على قوله في باب الذبائح: (( ولا بأس بذبيحة الجنب والحائض ))(1)؛ لأن نجاستهما لا تمنع من أكل ذبيحتهما، فلما وصفهما بالنجاسة عُلِم أن الماء الذي يغتسلان به يجب تنجيسه، وهذا بعيد؛ لأن وصفه لهما بالنجاسة على سبيل التجوز، والمراد به أنَّه يجب عليهما الاغتسال.
يبين ذلك ما ذكره عليه السلام في كتاب النكاح: أنَّه يجوز للرجل أن يدنوا من امرأته وهي حائض ما دون الإزار، ولا ينبغي أن يدنو من فرجها، ولا أن يقرب من نجاستها(2)، فلما أباح له مقاربة الحائض، ومنع من مقاربة نجاستها، عُلِم أنَّه لا يجعل أعضاء الحائض نجسة إذا لم يكن عليها نجاسة، ونص على أن سؤر الحائض طاهر، مع تنجيسه سؤر الكافر، فدل على أنَّه لا ينجس أعضاء الحائض. وفي ذلك:
ما أخبرنا به أبو عبد اللّه محمد بن عثمان النقاش، قال: حدثنا الناصر للحق، عن محمد بن منصور، قال: حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: عاد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ـ وأنا معه ـ رجلاً من الأنصار، فتطهر للصلاة، ثم خرجنا فإذا نحن بحذيفة بن اليمان فأومأ إليه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فأقبل إليه، فأهوى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذراع حذيفة ليّدعم عليها، فنخسها حذيفة، فأنكر ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (( مالك يا حذيفة؟ فقال: إني جنب، قال: ابرز ذراعك، فإن المسلم ليس بنجس(3)، ثم وضع كفه على ذراعه ))، وإنها لرطبة.
__________
(1) ذكره في الأحكام 2/389.
(2) ذكره في الأحكام 1/359. وهو هنا بلفظ قريب.
(3) في (أ): بنجس.(2/16)


فالأولى على ما بيناه هو القول بطهارة الماء المستعمل، على أن تنجيسه ليس يحفظ إلاَّ عن أبي حنيفة، في رواية شاذة.
قال أبو بكر الجصاص في شرحه (مختصر الطحاوي): والصحيح من مذهب أصحابنا أن الماء المستعمل طاهر، قال: وكذا كان يقول أبو الحسن الكرخي.
مسألة الفرق بين الكثير والقليل من الماء
قال: والكثير هو: الماء الذي جرت العادة في مثله، أن لا يُستوعب شرباً وطهوراً كالبيار النابعة(1)، والأنهار الجارية، والبرك الواسعة. والقليل: ما دونه.
وهذه الجملة قد نص عليها يحيى عليه السلام في كتاب الطهارة من (الأحكام)(2).
وقد ذكرنا ما يدل على تنجيس الماء القليل إذا وقعت فيه النجاسة، وإن لم يتغير الماء بها، وقد ذكرنا أيضاً الأخبار التي يُستدل بها على أن الكثير لا ينجس، من خبر أبي سعيد الخدري حين يقول: انتهينا مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى غدير فيه جيفة، فقال: (( اسقوا واستقوا ))، ومن خبر بئر بضاعة.
وقد ذكرنا ما رواه محمد بن شجاع، عن الواقدي، أن بئر بضاعة كانت طريق الماء إلى البساتين، على أنَّه لا خلاف أن الماء إذا بلغ هذا الحد من الكثرة فلا ينجس بما يقع فيه من النجاسة، إلاَّ أن يتغير، إلاَّ الآبار النابعة، فقد اختلف فيها.
والذي يدل على صحة ما نذهب إليه من الفرق بين الماء القليل والكثير:
ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا معلا بن منصور، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وأبو معمر البصري، عن عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا عطاء بن السائب، أن أبا البَخْتري، وزاذان حدثاه عن علي عليه السلام، أنَّه قال في الفأرة إذا ماتت(3) في البئر: (( فانزحها حتى يغلبك الماء )) .
__________
(1) في (أ): النابغة.
(2) الأحكام 1/56، وهي هنا بالمعنى.
(3) في (أ): كانت.(2/17)


وأخبرنا أبو بكر، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن حميد بن هشام الرعيني، قال: حدثنا علي بن مَعْبَد، قال: حدثنا علي بن موسى بن أعين، عن عطاء، عن ميسرة وزاذان، عن علي عليه السلام، قال: (( إذا سقطت الفأرة أو الدابة في البئر فانزحها حتى يغلبك الماء ))(1).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور، عن عطاء أن حبشياً وقع في زمزم، فأمر ابن الزبير فنزح ماؤها فجعل الماء لا ينقطع، فنظرنا، فإذا عين تجري قبل الحجر الأسود، فقال ابن الزبير: حسبكم(2).
وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا المعلى بن منصور، عن هشيم، عن منصور، عن عطاء مثله.
فقد ثبت بما رويناه أن أمير المؤمنين عليه السلام راعى فيه أن يكون الماء يغلب النازح، وكذلك ابن الزبير، وذلك نص ما ذهبنا إليه من أن الماء إذا كان لا يُستوعب بالشرب والطهور، فإنه لا ينجس إلاَّ أن يتغير.
ومن مذهبنا أن أمير المؤمنين عليه السلام إذا قال قولاً فيجب اتباعه والانتهاء(3) إليه، على أن غيرنا أيضاً يقول: إن الصحابي إذا قال قولاً، ولم يُعرف له مخالف فيه، وجب القول به.
فإن قيل: فإن في هذه الأخبار أنَّه نزح ماؤها حتى غلب، وأنتم لا تشترطون ذلك؟
قيل له: إن النزح يحتمل أن يكون أمر به؛ لأن يتبين أن الماء غالب، إذا لم يكن ذلك معلوماً، وإذا احتمل ذلك، وقد ثبت أن النازح لا يمكنه أن ينزح النجس، ويترك الطاهر، علمنا أن المراد بالنزح ما أشرنا إليه أن المراعى فيه أن يكون الماء غالباً.
فإن قيل، فقد روي:
__________
(1) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/17، عن محمد بن حميد، به. إلا أنه قال: حدثنا موسى بن أعين..
(2) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/17، عن صالح، به.
(3) في (ب): وإلا انتهى.(2/18)


ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن ميسرة أن علياً عليه السلام، قال في بئر وقعت فيها فأرة فماتت: (( ينزح ماؤها )) ، فقد أمر بنزحها مطلقاً؟(1)
قيل له: ليس في هذا ما يفسد مذهبنا؛ لأنا لا ننكر أن البئر إذا كان يمكن نزح جميع ما فيها ينجس ماؤها بما يقع فيه من النجاسة.
ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه أن الماء إذا كان يمكن أن يُستوعب بالشرب والطهور، فإنه لو استوعب لكان استعمال النجاسة متيقناً، ولم يكن بعض المستعملين له أولى بالتنجيس من بعض؛ إذ لا خلاف أن حكم أبعاض ذلك الماء في التنجيس والتطهير حكم واحد؛ لأن من قال بتنجيس بعضه، قال بتنجيس كله، ومن قال بتطهير بعضه قال بتطهير كله، وإذا كان الماء مما لا يمكن استيعابه بالشرب والطهور، لم يحصل اليقين باستعمال النجاسة؛ إذ أصل الماء الطهارة، وكل بعض منه يجوز أن لا تكون النجاسة ماسته.
فإن قيل: فما تقولون في الموضع الذي يقع فيه النجس هل يجوز استعماله بعينه؟
قيل له: إذا عرف ذلك الموضع بعينه فلا يجوز عندنا استعماله، وقد نص عليه يحيى عليه السلام في (الأحكام)(2): (ينجس الطهور بأن يلغ فيه الكلب والخنزير أو أن يشرب(3) منه كافر بفيه، أو يدخل يده فيه). ولم يشترط أن يكون الماء في إناء أو بحر، بل أطلق القول فيه، فاقتضى ذلك أن يكون كل موضع من الماء مسه النجس يصير نجساً.
__________
(1) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/17، عن محمد، به.
(2) انظر الأحكام 1/56، إلا أنه قال: أو الخنزير.
(3) في (أ): أو أن يشرب.(2/19)

5 / 138
ع
En
A+
A-