ففي هذا الخبر تصريح بأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى في حالة العصر في وقت الظهر، والعشاء في وقت المغرب، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر في وقت العصر، والمغرب في وقت العشاء.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا مسدد، حدثنا عمر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أنَّه كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد ما يغيب الشفق، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جد به السير جمع بينهما، وفي بعض الأخبار، أنَّه قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل(1).
ففي هذا الخبر الجمع بينهما في وقت إحداها.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، أخبرنا مالك، عن أبي الزبير المكي، عن ابن جبير، عن ابن عباس، أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر(2).
وروي بغير هذا الإسناد، فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد ألا يحرِّج على أمته(3).
وروي عن ابن عباس: (( من غير سفر ولا مطر )).
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 12/162، إلا أن فيه: حدثنا يحيى، عن عبد الله، بدلاً عن عمر، عن عبيد الله.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/160، وفيه: صلى بنا.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/160، وفيه: صلى بنا رسول الله.(11/16)
وروي عن ابن عباس، أنَّه قال: ربما جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المغرب والعشاء في المدينة. وهذه الأخبار تبين أن الجمع غير مقصور على السفر، وليس لهم أن يحملوا ذلك على تأخير الصلاة الأولى، وتقديم الثانية حتى تكون كل واحدة منهما مفعولة في وقتها؛ لأن ذلك لا يكون جمعاً على الحقيقة، وإنما يكون جمعاً إذا جمع بينهما في وقت إحداهما، على أنه لا خلاف في جواز الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة، وفي جواز الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة في وقت العشاء. فبان بذلك أن وقت كل واحدة منهما وقت لصاحبتها.
فإن قيل: فالخبر الذي ذكرتموه في صدر باب المواقيت(1) من تعليم جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتعليم النبي عليه السلام لمن جاء يسأله عن أوقات الصلوات.
قيل له: أخبار التعليم تدل على اختصاص كل واحدة من الصلوات بوقت على سبيل الاختيار، وهذه الأخبار دلت على أوقات العذر، على أن تلك الأخبار ـ أيضاً ـ دلت على أن آخر وقت الظهر أول وقت العصر، وأن آخر وقت المغرب هو أو وقت العشاء، فبان أن هذه الأخبار بمجموعها دلت على أوقات الاختيار، وعلى أوقات العذر، فصح ما ذهبنا إليه.
وأما كون وقت العصر ممتداً إلى غروب الشمس، فسنذكر ما ورد فيها من الأخبار بعد هذه المسألة.
وأما كون وقت العشاء ممتداً إلى طلوع الفجر، فقد استدل على ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلْ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيْلا}[المزمل:1]، فأوجب القيام في أكثر الليل، ولا صلاة تؤدى في أكثر الليل إلاَّ صلاة العشاء، فعُلم أنها المراد، وإذا ثبت ذلك، ثبت أن وقتها ممتد إلى الفجر؛ لأن كل من جعل وقتها أكثر من نصف الليل، جعله إلى آخر الليل. ويدل على ذلك:
__________
(1) ـ في (أ) و(ب): ذكرتموه في ذلك ناب.(11/17)
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يزيد بن سنان، حدثنا الحسن بن عمر بن شقيق، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن نافع، عن ابن عمر، قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعشاء الآخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلثا الليل، أو بعده، ولا ندري أي شيء شغله في أهله، أو في غير ذلك؟
فقال حين خرج: (( إنكم تنتظرون صلاة ما(1) ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يَثقل على أمتي، لصليت بهم هذه الساعة ))، ثُمَّ أمر المؤذن، فأقام الصلاة، فصلى.
فإذا ثبت بهذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاها حين ذهب ثلثا الليل، أو بعده، كان وقتها ممتداً إلى طلوع الفجر؛ إذ لا أحد جعل هذا الوقت وقتاً له، إلاَّ وجعل باقي الليل وقتاً له.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بكرة(2)، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن نافع، عن بن جبير(3)، قال: إن عمر كتب إلى أبي موسى: "صلِّ العشاء في أي الليل شئت، ولا تغفلها"(4).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، حدثنا عبدالله ابن يوسف، حدثنا الليث عن يزيد بن أبي(5) حبيب، عن عبيد بن جريج، أنه قال لأبي هريرة: ما إفراط صلاة العشاء؟ قال: طلوع الفجر(6).
فإذا روي ذلك عن عمر، وأبي هريرة، ولم يرو خلافه، وإنكاره عن غيرهما من الصحابة، جرى مجرى إجماعهم على ذلك.
مسألة [ فيمن يدرك ركعة قبل خروج الوقت ]
قال: ومن أدرك ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدركها، ومن أدرك ركعة قبل طلوع الفجر من العشاء، فقد أدركها، ومن أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، فقد أدركها.
__________
(1) ـ في (أ): لم.
(2) ـ في (أ): أبو بكر.
(3) ـ في (ب)، وشرح معاني الآثار: عن نافع بن جبير.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/159.
(5) ـ سقط من (أ): أبي.
(6) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/159.(11/18)
وذلك منصوص عليه في (المنتخب)(1). واستدل على ذلك:
بما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا بشر بن عمير(2)، حدثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدركها، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر ))(3).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني(4) يونس ابن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله.
وأخبرنا أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من أدرك ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدرك الفجر ))، وذكر في العصر مثله.
فإن قيل: فقد(5) روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن الصلاة حين تطلع الشمس، وحين تغرب.
قيل له: إذا ثبت بما بينا أن من أدرك ركعة (من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدركها، ومن أدرك ركعة) (6) من الفجر قبل أن تطلع الشمس، فقد أدركها، ثبت أن النَّهي إنَّما ورد عما عدا الفوات(7) في هذين الوقتين؛ ليكون ذلك جمعاً بين الأخبار.
مسألة [ في وقت الوتر ]
قال: ووقت الوتر حين الفراغ من صلاة العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر، والأفضل تأخيره إلى آخر الليل.
وذلك منصوص عليه في (المنتخب)(8).
__________
(1) ـ انظر المنتخب ص33.
(2) ـ في (ج): عمر.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/151، وفيه: بشر بن عمر، وذكر زيد يرويه عن عطاء، وبشر بن سعيد، وعبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة.
(4) ـ في (ب): قال: أخبرني.
(5) ـ في (أ): قد.
(6) ـ سقط ما بين القوسين من (أ) و(ب).
(7) ـ في (أ) و(ب): عدا القولين.
(8) ـ انظر المنتخب ص56.(11/19)
والدليل على أن وقته من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر:
ما أخبرنا به أبو الحسين، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن إسحاق، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن عبد الله بن مرة(1)، عن خارجة بن حذافة العدوي، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة الغداة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( لقد أمركم الله الليلة بصلاة لهي خير لكم من حمر النعم )).
قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: (( الوتر، جعلها الله لكم ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر )).
وأخبرنا محمد بن عثمان، حدثنا الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام أنَّه أتاه رجل فقال: إن أبا موسى الأشعري يزعم أنه لا وتر بعد طلوع الفجر. فقال علي عليه السلام: "لقد أغرق في النزع، وأفرط في الفتيا، الوتر ما بين الصلاتين، وما بين الآذانين".
فسأله عن ذلك فقال: "ما بين صلاة العشاء إلىطلوع الفجر، وما بين الأذانين أذان الفجر وإقامته".
ففي هذين الحديثين فساد قول من يقول: إن أول الليل لا يكون وقتاً للوتر، وأن وقته هو آخر الليل.
فإن قيل: ففي خبر أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: "ووقته بين(2) أذان الفجر إلى إقامته"، وقد قلتم: إن وقته إلى طلوع الفجر؟
قيل له: يجوز أن يتأول الأذان على الأذان الواقع بين الفجرين، ويجوز أن يقال: إن ذلك وقت لقضائه.
فإن قيل: لا فائدة في ذكر وقت القضاء؛ إذ الأوقات أجمع وقت له.
__________
(1) ـ في (ب): ابن أبي مرة. وفي (ج): عن عبد الله بن راشد، عن عبد الله بن أبي مرة.
(2) ـ في (أ): من.(11/20)