وإن ذكروا في هذا الباب قياساً أمكن أن يعارضوا بأن يقاس الظهر والعصر على المغرب والعشاء؛ بعلة أنهما صلاتان يجوز الجمع بينهما على بعض الوجوه، فيجب أن لا يكون وقت الأولى أطول من وقت الأخرى.
مسألة [ في بيان وقتي المغرب والعشاء ]
قال: وأول وقت المغرب غروب الشمس، ودخول الليل، ويستبان ذلك بظهور كوكب من كواكب الليل، وآخر وقته سقوط الشفق، وهو أول وقت العشاء، وآخره ثلث الليل.
قد نص في (الأحكام)(1) على أن: أول وقت المغرب عند دخول الليل، وأن ذلك يستبان بكوكب من كواكب الليل، وأن أول وقت العشاء سقوط الشفق، وذلك(2) في باب الإستحاضة من كتاب الطهارة من (الإحكام)(3) على أن آخر وقت المغرب أول وقت العشاء على ما ذكرناه في آخر وقت الظهر.
ودل في (المنتخب)(4) على أن آخر وقت العشاء ثلث الليل.
ولا أحفظ خلافاً في أن أول وقت المغرب عند دخول الليل.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام صلى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم المغرب حين أفطر الصائم، إلاَّ أن الناس اختلفوا في دخول الليل: فمنهم من راعى احتجاب الشمس عن الأبصار.
وذهب يحيى عليه السلام إلى أنَّه يجب أن يستظهر بأن يرى كوكب من كواكب الليل(5)، قال: لأن الشمس قد تحتجب وإن لم تكن غابت على الحقيقة، واستدل على ذلك بقول الله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوكَباً}[الأنعام:76]، فلما قرن الله تعالى اجتنان الليل برؤية الكوكب(6)، عُلم أنها أمارة له.
قال: ولا بد من أن يكون الكوكب من كواكب الليل؛ لأن الكواكب التي ترى نهاراً قد ترى والشمس لم تحتجب، فعلم أنَّه لا معتبر به، وإنما الاعتبار بكواكب الليل، ويدل على ذلك:
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/89.
(2) ـ في (ج): دلّ.
(3) ـ انظر الأحكام 1/76.
(4) ـ الذي في المنتخب رواية عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء، وفيها: شطر الليل. هذا ما ذكر فيه.
(5) ـ انظر الأحكام 1/89.
(6) ـ في (ب): الكواكب.(11/11)
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد حدثنا عبدالله(1) بن صالح، حدثني الليث بن سعد، عن خير بن نعيم، عن أبي هبيرة الشيباني، عن أبي تميم الجيشاني، عن أبي بصرة الغفاري، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة العصر(2)، فقال: (( إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها منكم، أُوتي أجرها مرتين، ولا صلاة حتى يطلع الشهاب )) . وفي بعض الأخبار (( حتى يطلع الشاهد ))(3).
فإن قيل: روي إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي المغرب إذا وجبت الشمس، وروي: كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا توارت بالحجاب.
قيل له: ذلك لا ينافي ما ذكرناه؛ لأنَّه لا يمتنع أن تكون حقيقة غروب الشمس لا تعلم إلاَّ بطلوع النجم، وهذا أولى؛ لأنَّه جمع بين الأخبار كلها، وأخذ بها.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا سليمان بن شعيب، حدثنا أسد، حدثنا ابن أبي ذؤيب، عن الزهري، عن حميد بن عبدالرحمن، قال: رأيت عمر وعثمان يصليان المغرب في رمضان، إذا أبصرا الليل الأسود، ثُمَّ يفطران بعده(4).
وأما ما يدل على أن آخر وقت المغرب هو أول وقت العشاء، فهو حديث جابر، وحديث أبي موسى؛ لأن جابراً قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى العشاء في الليلة الأولى قبل غيبوبة الشفق، وذكر أبو موسى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى العشاء في الليلة الأولى حين غاب الشفق، وذكر أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أخر المغرب الليلة الثانية حتى كان عند سقوط الشفق.
__________
(1) ـ في (أ) و(ج): أبو عبد الله.
(2) ـ في (ب): صلاة المغرب. وفي (ج): صلاة العصر بالمخمص.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/153، والتي فيه الرواية الثانية.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/155، وفيه: ابن أبي ذئب، بدلاً عنه ذؤيب.(11/12)
ويدل على ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا حضر العَشَاء وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء )). ولا يجوز أن يرخص في تأخيرها إلاَّ مع بقاء وقتها.
فإن قيل: ذكر ابن عباس في حديثه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى المغرب حين أمّ به جبريل عليه السلام في وقت واحد.
قيل له: قد دللنا على أن ما رواه جابر وأبو موسى متأخر عن حديث ابن عباس، فهو أولى أن يؤخذ به.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم )).
قيل له: يجوز أن يكون المراد به أنَّه أول الوقت، ويعتقدوا في أول الوقت أنَّه ليس بوقت له.
وقد قلنا: إن القياس في هذا الباب مما يضعف، ولكنا نذكر ما قيل فيه، وهو أنَّه مقيس على الظهر بعلة أنَّه يجوز الجمع بينه وبين الصلاة التي تليه على بعض الوجوه، فيجب أن يكون وقته ممتداً إليها.
فأما آخر وقت العشاء، فالذي يدل على أنَّه إلى ثلث الليل الأخبارُ التي قدمناها، فأما ما روي من بقاء وقتها إلى نصف الليل وإلى ثلثيه، فهو محمول على أنَّه وقت الاضطرار، وذلك مما لا ينكر.
مسألة [ في الشفق ]
قال: والشفق المعتبر به هو الحمرة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1)، وقد ذكره القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي)، وهو قول جميع أهل البيت عليهم السلام، لا يختلفون في ذلك، وهو قول عامة الفقهاء.
والدليل على ذلك حديث جابر، حيث يقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى المغرب في الليلة الأولى حين وجبت الشمس، ثُمَّ صلى العشاء قبل غيبوبة الشفق. ولا خلاف أن(2) العشاء لا يصلى على الاختيار قبل غيبوبة الشفق، وهو الحمرة، فإذاً مراده قبل غيبوبة البياض، فكأنه قال باللفظ الصريح ـ صلى صلى الله عليه وآله وسلم ـ: العشاء في الليلة الأولى قبل غيبوبة البياض.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/89.
(2) ـ في (أ): ولا خلاف في أن.(11/13)
فإن قيل: قد قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}[الإسراء: ، والدلوك: الغروب. فأمر بإقامة صلاة المغرب إلى غسق الليل، وغسق الليل لا يكون إلاَّ مع غروب البياض، ففي ذلك أن وقت المغرب باقِ إلى غروب البياض، وإذا ثبت ذلك، ثبت أن أول وقت العشاء عند غروب البياض.
قيل له: الصَّحيح عندنا أن دلوك الشمس أراد به زوالها، على أنا لو سلمنا أن المراد به الغروب، لم يجب ما قالو بأن الغسق هو الظلام، ونحن نعلم أن الظلام يكون مع بقاء الحمرة، فكيف مع غيبوبتها، فسقط تعلقهم بذلك، يؤكد ذلك ما روي عن ابن مسعود أنَّه صلى المغرب حين غابت الشمس، وقال: هذا والذي لا إله إلاَّ هو وقت هذه الصلاة، ثُمَّ قرأ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}[الإسراء: ]، وأشار بيده إلى المغرب، وقال: هذا غسق الليل، وأشار بيده إلى المطلع، فبين أن المراد بغسق الليل هو حصول ظلام الليل، على أن المشهور عند أهل اللغة أن الشفق هو الحمرة، وقد ذكره الخليل في كتاب (العين)، فيجب أن يحمل عليه سائر الأخبار التي روي فيها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاها حين غاب الشفق.
فأما ما نذكره في هذا الباب على طريق المقايسة، فقد قلنا: إنَّه يضعف جداً، ويمكن أن يعارضوا على قولهم في ذلك أن(1) البياض والحمرة وقت للصلاة بالاتفاق، وهي صلاة واحدة، وكذلك يجب أن يكونا وقت صلاة واحدة، وهي المغرب بأن يقال لهم: قد ثبت أن بذهاب الحمرة ذهاب وقت صلاة واحدة، وهي المغرب، على أن أوكد ما يعتمد في هذا الباب إجماع أهل البيت عليهم السلام على أن الشفق المعتبر به هو الحمرة، وقد ذكرنا أن إجماعهم حجة.
مسألة [ في بيان وقت صلاة الفجر ]
قال: وأول وقت صلاة الفجر طلوعه، وآخره قبيل طلوع الشمس، فهذه الأوقات المندوب إليها.
__________
(1) ـ في (ب): إلى.(11/14)
أما أول وقت صلاة الصبح، وآخره فلا خلاف فيه، وقد دلت على ذلك الأخبار التي تقدمت، وقد نص يحيى عليه السلام على أول وقته في (الأحكام)(1)، ونبه على آخر وقته في (المنتخب)(2)، وكون هذه الأوقات التي مضى ذكرها أوقات الاختيار، قد دلت عليه الأخبار التي قدمناها فلا غرض في إعادتها.
مسألة [ في الجمع بين الصلوات ]
قال(3): فأما من كان مسافراً، أو خائفاً، أو مريضاً، أو مشتغلاً بشيء من أمر الله، فله أن يجمع بين الظهر والعصر بعد زوال الشمس إلى غروبها، وبين المغرب والعشاء بعد غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(4).
وهذه الجملة تشتمل على مسألتين:
إحداهما: أنَّه يجوز أن يجمع بين الظهر والعصر في وقت كل واحدة منهما، وكذلك يجوز الجمع بين المغرب والعشاء في وقت كل واحدة منهما.
والمسألة الثانية: أن وقت العصر ممتد إلى غروب الشمس، وأن وقت العشاء الآخرة ممتد إلى طلوع الفجر.
فأما ما يدل على جواز الجمع على نحو ما ذكرناه فهو: ما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، حدثنا محمد بن شجاع، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا(5) ابن جريج، عن الحسين بن عبدالله بن عبيدالله بن العباس، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا زاغت له الشمس ـ وهو في منزل ـ جمع بين الظهر والعصر، فإذا لم تزغ له حتى ارتحل، سار حتَّى يدخل وقت العصر، ثُمّ نزل [في وقت المغرب](6) فجمع بينهما.
وإذا غربت الشمس وهو في منزل، جمع بين المغرب والعشاء، وإذا لم تغرب الشمس حتى ارتحل، سار إلى وقت العشاء، ثُمَّ نزل فجمع بين المغرب والعشاء.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/89.
(2) ـ الذي في المنتخب رواية عن عبد الرزاق، عن ابن جرير، عن طاووس، ص34.
(3) ـ سقط من (ا): قال.
(4) ـ انظر الأحكام 1/89 ـ 90.
(5) ـ في (ب): أخبرنا.
(6) ـ سقط ما بين المعكوفين من (ب) و(ج).(11/15)