قيل له: قد ثبت بالأخبار التي مضت أن الأوقات ثلاثة: وقت يختص بالظهر، ووقت يختصر بالعصر، ووقت هو مشترك بينهما، وإذا كان ذلك على ما ذكرناه، ثبت أن المراد بهذا الخبر هو أن التفريط ترك الصلاة إلى وقت يختص بصلاة أخرى، وهذا ما لا نأباه، بل نقول به، ونذهب إليه.
يوضح ذلك أن ذلك الوقت ـ أعني الوقت المشترك ـ لا نقول على الإطلاق أنَّه وقت للصلاة الأخرى؛ لأنَّه يمُت إلى الصلاة الأخرى، كما يمت إلى الصلاة الأولى؛ لأنَّه آخر وقت الأولى، وأول وقت الأخرى.
فإن قيل: فإن ابن عباس روى الخبر الذي اعتمدتموه في المواقيت، وقد روى ليث، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: لا تفوت صلاة حتى يجيء وقت الأخرى، فبان أن التأويل في خبر المواقيت هو الذي ذكرناه.
قيل له: قد ثبت أن جميع الصلاة غير مراد بهذا، ألا ترى أن صلاة الفجر تفوت، وإن لم يجئ وقت صلاة أخرى، فلا يمتنع على هذا أن يكون أراد به العصر، والعشاء الآخرة، وأراد ما ذكرناه من تأويل الخبر الذي ذكرناه قبل هذا من مجيء وقت يختص بالصلاة الأخرى.
وجملة الأمر أن الأخبار التي اعتمدناها في هذا الباب مرجَحة على سائر ما ذكروه من الأخبار؛ لأنها أخبار مشهورة تلقتها العلماء بالقبول، ورجعوا في تعريف مواقيت الصلاة إليها، واعتمدوا عليها؛ ولأن المقصد فيها بيان الأوقات، وليس كذلك سائر الأخبار التي عارضوا بها.
فإن قاسوا الظهر والعصر على الفجر، وقالوا: إن وقتهما يجب أن لا يكون فيه اشتراك كصلاة الفجر، انتقض ذلك بالجمع بعرفات.
وإن شئنا قسنا سائر الأيام على يوم عرفة بعرفات، وقلنا لمن يخالفنا: يجب أن يحصل الاشتراك في وقت الظهر والعصر، على أن إثبات المواقيت بالقياس لا معنى له، إلاَّ أنا ذكرناه لاعتماد بعض المخالفين عليه مع ضعفه.
فصل [ في الرد على من قال إن أول العصر مصير ظل الشيء مثليه ](11/6)


فأما من قال: إن أول وقت العصر حين يصير ظل كل شيء مثليه، [فإن وقت الظهر ممتد إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه](1).
واستدل على ذلك بأن قال: إنَّما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تأدية الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله دلالة على أنَّه قد نسخ ما فعله في اليوم الأول من تأدية العصر في هذا الوقت، فلا معنى له؛ لأن هذا لا يدل على النسخ، بل يدل على أن الوقت وقت لهما على ما بيناه، يؤيد ذلك أنَّه قد ثبت أن المقصد به كان بيان أول الوقت وآخره، بدلالة أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم فعل(2) ذلك بجميع الصلوات ـ يعني أداها في وقتين ـ وقال: (( الوقت فيما بين هذين الوقتين )).
وأيضاً لا خلاف بين المسلمين أن الأخبار إذا أمكن أن يبنى بعضها على بعض، فلا يجب أن يحمل على النسخ، فإذا ثبت ذلك، وأمكن أن تحمل تأدية العصر في اليوم الأول في وقت أديَ في الظهر في اليوم الثاني على أن الوقت وقت لهما جميعاً، لم يجب أن يحمل على النسخ.
ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد فعل ذلك حين أَمَّه جبريل عليه السلام، ثُمَّ فعله حين جاء رجل يسأله عن أوقات الصلوات، فلو كان ما فعله صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الثاني في المرة الأولى التي أمَّه فيها جبريل عليه السلام نسخاً؛ لِما فعله في اليوم الأول في تلك المرة، لم يفعله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك عند تعليمه مَن سأله عن أوقات الصلوات.
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم إنَّه لا يمتنع أن يكون ائتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجبريل عليه السلام، وتعليمه من سأله عن أوقات الصلاة(3)، كان في مرة واحدة فلا يلزم ما ذكرتم؟
قيل له: هذا ممتنع لوجهين:
__________
(1) ـ ما بين المعكوفين في (ج).
(2) ـ في (ج): قد فعل.
(3) ـ في (ب) و(ج): الصلوات.(11/7)


أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتدأ التعليم في حديث جابر، وحديث أبي موسى من صلاة الفجر إلى أن صلى الصلوات كلها في يومين.
وفي حديث ابن عباس أن جبريل عليه السلام حين أُمَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم المواقيت، ابتدأ بصلاة الظهر(1)،[ثُمَّ ابتدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم السائل منها ـ أي من صلاة الفجر](2)؛ ولأنه يجوز أن يعلم السائل ولم يتعلم بعد من جبريل عليه السلام ، وإذا كان ذلك كذلك فالواجب أن تكون صلاة الظهر التي تليها هي المفعولة بتعليم جبريل عليه السلام حين صار ظل كل شيء مثله.
وليس كذلك في خبر جابر، وأبي موسى، بل فيه أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر ذلك اليوم حين زالت الشمس، فصح بهذا أن التعليم لم يكن في وقت تعليم جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم(3).
__________
(1) ـ في (ج): فصلاة الفجر التي ابتدأ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بتعليم السائل منها لا بد من أن تكون الصلاة الخامسة التي أم فيها جبريل عليه السلام صلى اللّه عليه وآله وسلم؛ لأنه لا...
(2) ـ ما بين المعكوفين ساقط من (ج).
(3) ـ في (أ) و(ب): عليه السلام حين أم بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.(11/8)


[والوجه الثاني: أن في خبر ابن عباس: أن جبريل عليه السلام حين أمَّ بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صلى المغرب](1)، وصلى المغرب في الليلة الثانية حين أفطر الصائم كما كان صلاها في الليلة الأولى، وفي حديث جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى المغرب ـ حين علم السائل في الليلة الثانية ـ قبل غيبوبة الشفق، في الوقت الذي ذكر أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم صلى فيه العشاء في الليلة الأولى، وكذلك في خبر أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى المغرب في الليلة الثانية عند سقوط الشفق، فعلم أن هذه الصلاة(2) ـ أعني صلاة المغرب ـ في الليلة الثانية من تعليم [النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للسائل غير صلاة المغرب في الليلة الثانية](3) جبريل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن استدلوا بحديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل أهل الكتابين قبلكم كمثل رجل استعمل رجلاً عملاً، فقال: من يعمل إلى نصف النهار بقيراط؟ فعملت اليهود، ثُمَّ قال: من يعمل إلى صلاة العصر بقيراط؟ فعملت النصارى على ذلك، ثُمَّ أنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر أعمالاً، وأقل عطاءً )).
وقالوا: إنَّه يدل على أن وقت صلاة العصر حين يصير ظل كل شيء مثليه من وجهين:
أحدهما أنَّه قال: أجلكم في أجل من خلا من الأمم قبلكم، كما بين صلاة (4) العصر إلى مغرب الشمس، وإنما قصد الإخبار عن قصر المدة.
__________
(1) ـ سقط ما بين المعكوفين من (أ) و(ب).
(2) ـ في (أ): الصلوات.
(3) ـ ما بين المعكوفين موجود في (ج) وفي هامش (ب) و(أ).
(4) ـ في (ج): كما بين.(11/9)


والوجه الثاني: أن قوله فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا(1): نحن أكثر عملاً، وأقل عطاء. فمعلوم أن كثرة العمل تكون بطول مدة وقتهم [وقصر وقت أمتنا](2)، ففي هذا أن ما بين العصر إلى غروب الشمس أقل مما بين الظهر إلى العصر، فذلك يوجب أن وقت العصر حين يصير ظل كل شيء مثليه.
قيل لهم: إن هذا الخبر ـ إن صح ـ خبر ورد على طريق التشبيه، وضرْب المثل فليس يجوز الاعتراض به على خبرنا، ولا تقديمه عليه؛ لأن خبرنا ورد المقصد به في بيان الأوقات وتعليمها، فأكثر ما علينا في هذا الخبر إذا قبلناه أن نذكر له وجهاً وتأويلاً، ثُمَّ الواجب الرجوع إلى الخبر الذي ذكرناه للوجه الذي بيناه.
فنقول: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد بذلك آخر وقت العصر، وآخر وقته حين يصير ظل كل شيء مثليه، فعلى هذا التأويل يسقط تعلقهم بالوجهين جميعاً.
ويحتمل ـ أيضاً ـ أن يكون اليهود والنصارى بأجمعهم قالوا: نحن أكثر عملاً وأقل عطاءً ـ ولم يقله كل واحد من الفريقين على حياله ـ فلا يجب إذاً أن يكون وقت الظهر أطول من وقت العصر، وإنما يجب أن يكون من أول النهار إلى وقت العصر أطول من وقت العصر إلى غروب الشمس.
فإن قيل: لو كان ذلك كذلك، لم يقولوا بعد قولهم نحن أكثر عملاً وأقل عطاءً؛ لأن عطاء الفريقين مثل عطاء المسلمين.
قيل لهم: ليس الأمر كذلك؛ لأن عطاءهم بالإضافة إلى أعمالهم أقل من عطاء المسلمين بالإضافة إلى أعمالهم، على أن ما يقصد به ضرب المثل والتقريب لا يجب أن يكون مثل الممثَّل به على التحقيق، وإنما يجب أن يأخذ منه شبهاً على وجه من الوجوه، وهذا الكلام أضعف من أن يحتاج فيه إلى الإطالة.
__________
(1) ـ في (أ) و(ب): وقالوا.
(2) ـ ما بين المعكوفين في (ج).(11/10)

44 / 138
ع
En
A+
A-