باب القول في المواقيت
[مسألة في وقت الظهر والعصر ]
أول وقت الظهر زوال الشمس، ويتبين(1) ذلك بازدياد ظل كل منتصب بعد انتقاصه سوى فيء الزوال. وآخر وقته حين يصير ظل كل شيء مثله، وهو أول وقت العصر، وآخر وقته عند مصير(2) ظل كل شيء مثليه.
وقد نص في (الأحكام) على أول الظهر، وأول وقت العصر على ما ذكرناه. وقال في باب الاستحاضة من (الأحكام)(3): تؤخر المستحاضة الظهر إلى أول وقت العصر، ثُمَّ تصليهما بوضوء واحد، كما روي أنها تجمع بينهما في آخر وقت الأولى، وأول وقت الأخرى. فدل ذلك على أن آخر وقت الظهر ـ على ما بيناه ـ حين يصير ظل كل شيء مثله.
فأما أول وقت الظهر فلا خلاف فيه بين المسلمين، والأخبار التي نذكرها من بعد في هذا الباب تدل على ذلك.
وقلنا: إن ذلك يتبين بازدياد ظل كل منتصب بعد الانتقاص؛ لأن زوال الشمس هو أن تميل عن وسط السماء إلى ناحية المغرب، وقد علمنا أن أطول ما يكون ظل كل منتصب إذا كانت الشمس في الأفق، وأقصر ما يكون إذا كانت في وسط السماء، فعلى هذا إذا طلعت الشمس يكون الظل أطول ما يكون، ثُمَّ لا يزال يتناقص إلى أن يبلغ وسط السماء، ثُمَّ إذا زالت عن الوسط إلى أفق المغرب زاد الظل، فذلك(4) علامة زوال الشمس.
واستثنينا فيء الزوال من الظل المراعى للمواقيت؛ لأن الزوال يختلف بحسب الأزمان والأماكن، وقد يكون في بعض الأزمنة والأمكنة فئ الزوال أطول من ظل المنتصب، فلو لم نستثنيه من الظل، لم يصح الاعتبار به، على أنه لا خلاف فيه بين العلماء.
واستدل في (المنتخب)(5) لصحة مذهبه في المواقيت:
__________
(1) ـ في (أ): وستبين.
(2) ـ في (ب) و(ج): وآخر وقته حين يصير.
(3) ـ انظر الأحكام 1/76.
(4) ـ في (ج): فذلك يكون.
(5) ـ المنتخب ص32.(11/1)


بما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، عن نافع بن جبير(1)، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أَمَّني جبريل عليه السلام مرتين عند باب البيت، فصلى بي الظهر حين مالت الشمس، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، وصلى بي الظهر من الغد حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين مضى ثلث الليل، وصلى بي الغداة حين ما أسفر، ثُمَّ التفت إليَّ، ثُمَّ قال: يا محمد، الوقت فيما بين هذين الوقتين، هذا وقت الأنبياء قبلك ))(2).
__________
(1) ـ في (ج): عن نافع، عن ابن جبير.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/146 ـ 147.(11/2)


وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا حماد بن يحيى، حدثنا عبد الله بن الحارث، حدثنا ثور بن يزيد، حدثنا سليمان بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر، قال: سأل رجل نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم عن وقت الصلاة؟ فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: (( صل معي )) فصلى مع(1) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح حين طلع الفجر، ثُمَّ صلى الظهر حين زاغت الشمس، ثُمَّ صلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثُمَّ صلى المغرب حين وجبت الشمس، ثُمَّ صلى العشاء قبل غيبوبة الشفق [ثم صلى الصبح فأسفر، ثم صلى الظهر حين كان ظل الإنسان مثله، ثم صلى العصر حين كان فيء الإنسان مثليه، ثم صلى المغرب قبل غيبوبة الشفق، ثم صلى العشاء، قال بعضهم: ثلث الليل، وقال بعضهم: شطر الليل](2).
فلما كان اليوم الثاني دعاه فصلى صلاة الصبح، فلما انصرف، قال القائل: طلعت الشمس أم لا؟ ثُمَّ أخر الظهر إلى أول وقت العصر أو قريباً منه، وأخر العصر والقائل يقول: غربت الشمس أم لا؟ ثُمَّ أخر المغرب إلى أن قال القائل: غاب الشفق أم لا؟ وأخر العشاء إلى شطر الليل، ثُمَّ قال: (( الوقت فيما بين هذين الوقتين ))، ثُمَّ صلى العشاء، وقال بعضهم: ثلث الليل، وقال بعضهم: شطر الليل(3).
__________
(1) ـ سقطت (مع) من (ب) و(ج).
(2) ـ ما بين المعكوفين زيادة في (ج). وقال العلامة العجري: هكذا في بعض نسخ شرح التجريد، وهو بهذا اللفظ في شرح معاني الآثار للطحاوي.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/147، إلى قوله: فلما، كأنه قال: حامد بن يحيى في سنده.(11/3)


وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا بدر بن عثمان(1)، حدثنا أبو بكر بن أبي موسى، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: أتاه سائل، فسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يرد شيئاً، فأمر بلالاً، فأقام الفحر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً، ثُمَّ أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس، والقائل يقول: انتصف النهار أو لم؟ وكان أعلم منهم، ثُمَّ أمره فأقام العصر، والشمس مرتفعة ـ حين صار ظل الإنسان مثله، ثُمَّ أمره فأقام المغرب حين وقعت(2) الشمس، ثُمَّ أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثُمَّ أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها، والقائل يقول: طلعت الشمس أو كادت. ثُمَّ أخر الظهر حتى كان قريباً من العصر، ثُمَّ أخر العصر حتى انصرف منها، والقائل يقول: وجبت الشمس؟ ثُمَّ أخر المغرب (3) عند سقوط الشفق، ثُمَّ أخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول، ثُمَّ أصبح فدعا السائل فقال: (( الوقت فيما بين هذين الوقتين ))(4).
فهذه الأخبار كلها قد اتفقت بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس.
ودل (5) على ذلك قول الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}[الإسرا: ].
فإن قال قائل: قد قيل إن الدلوك هو الغروب؟
قيل له: قد قيل ذلك. وقيل(6) الزوال، وليسا بمتنافيين، فغير ممتنع أن يكونا جميعاً مرادين.
فأما أن آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شيء مثله، فقد صرح به حديث ابن عباس، وحديث جابر.
وقول من قال: إن أول وقت العصر بعد أن يصير ظل كل شيء مثله، فلا معنى له؛ لما رويناه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك.
__________
(1) ـ في (أ): عثمان أبو حمزة.
(2) ـ في (ب) و(ج): وجبت.
(3) ـ في (ج): المغرب حتى كان.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/147، إلا أنه قال في العصر: احمرت الشمس.
(5) ـ في (أ): ويدل.
(6) ـ في (أ): وقد قيل.(11/4)


فإن قيل: الأخبار التي رويت في هذا الباب يحتمل أن يكون المراد بها أنه صلى الله عليه وآله وسلم فرغ من الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي كان ابتدأ العصر فيه في اليوم الأول؟
قيل له: ظاهر هذه الأخبار تنطق بخلاف ذلك؛ لأن فيها أنَّه صلى اللّه عليه وآله وسلم صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، فكان الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول هو الوقت الذي صلى فيه الظهر في اليوم الثاني بعينه.
فإن قيل: روى الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن للصلاة أولاً وآخراً، وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وإن آخر وقتها حين يدخل وقت العصر ))، فثبت بذلك أن دخول وقت العصر عند خروج وقت الظهر.
قيل له: نحن لو جعلنا هذا الحديث دلالة على صحة مذهبنا، لساغ؛ لأن ظاهره يشهد لنا، ألا ترى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( وإن آخر وقتها حين يدخل وقت العصر ))، والهاء راجعة إلى جميع صلاة الظهر، لا إلى آخر جزء منها، فإذا صار ظاهره يدل على أن آخر وقت صلاة الظهر بكمالها أول وقت العصر بكمالها، على أن الوجه الذي أشاروا إليه لا يستقيم على مذهبهم؛ لأنهم لا يقولون: إن وقتاً واحداً يشترك فيه آخر الظهر، وأول العصر، بل لا يجوز دخول وقت العصر إلاَّ بعد خروج وقت الظهر، وهذا واضح، وما ذكرناه من أن هذا الخبر شاهد لمذهبنا بيِّن.
فإن استدلوا بحديث أبي قتادة، قال: قال رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ليس في النوم تفريط، إنَّما التفريط في اليقظة، أن تؤخر صلاة إلى وقت أخرى )). فقالوا: قد دل ذلك على أن تأخير الظهر إلى(1) وقت العصر تفريط، وفيه أن الوقت الواحد لا يكون وقتاً لهما جميعاً.
__________
(1) ـ في (ج): إلى أول.(11/5)

43 / 138
ع
En
A+
A-