قال: وكذلك الإقامة، إلاَّ أنك تزيد ـ بعد قولك: حي على خير العمل ـ : قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة(1). وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2).
والوجه في تثنية الإقامة الأخبار التي قدمناها، منها: ما روينا عن بلال أنَّه كان يثني الأذان، ويثني الإقامة، وأنه أذنه ـ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنى ـ مرتين، وأقام كذلك.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، يرفعه إلى الهجنع(3) بن قيس، أن عليّاً عليه السلام مرَّ على مؤذن وهو يقيم مرةً مرة، فقال: ألا جعلتها مثنى، لا أُمَّ للآخَر.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كان عبد الله بن زيد الأنصاري مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشفع الأذان والإقامة.
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بكرة(4)، قال حدثنا أبو عاصم، حدثنا ابن جريج، أخبرني عثمان بن السائب، عن أبيه، وأم عبد الملك بن أبي محذورة، أنهما سمعا أبا محذورة يقول: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإقامة مثنى [مثنى](5).
فإن قيل: فقد روي عن أنس أنَّه قال: أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة(6).
قيل له: يجب أن يكون ذلك منسوخاً بما روي أن بلالاً أقام مثنى كما أذن مثنى. وبما روي عن أبي محذورة. وبما روي عن علي عليه السلام في ذلك.
وما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا حجاج بن أرطأة، حدثنا أبو إسحاق، قال: كان أصحاب عبد الله، وأصحاب علي يشفعون الأذان والإقامة.
__________
(1) ـ في (أ): قد قامت الصلاة، مرتين.
(2) ـ انظر الأحكام 1/84.
(3) ـ في (أ): المهيع.
(4) ـ في (ب): أبو بكر.
(5) ـ سقطت من (أ).
(6) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/134، بهذا السند، وبسند آخر إلى أبي محذورة.(10/11)
وما أخبرنا أبو بكر، أخبرنا(1) الطحاوي، حدثنا يزيد بن سنان، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا فطر بن خليفة، عن مجاهد في الإقامة مرة مرة: إنَّما هو شيء استخفته الأمراء. فأخبر مجاهد أن الأصل فيه التثنية(2).
فكلها تؤيد(3) ما نذهب إليه، وإنما(4) يجوز أن تقاس الإقامة على الأذان بمعنى أنَّه دعاء إلى الصلاة، فيجب في كل واحد منهما التثنية. وإذ قد صح أنَّه قول علي عليه السلام، فيجب عندنا أن يتبع فيه، ولا نخالفه.
مسألة [ في التطريب في الأذان ]
قال: ولا بأس بالتطريب في الأذان إذا كان مع البيان. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(5).
والحجة فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي محذورة: (( مد بها صوتك ))، وليس التطريب مع البيان إلاَّ أن يكون الحسن الصوت يمد بها صوته.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسْناً ))، وإذا جاز ذلك في القرآن، ففي الأذان أجوز.
مسألة [ في أخذ الأجرة على الأذان ]
قال: ولا يجوز أخذ الجعل عليه بشرط مشروط، فإن لم يكن مشروطً جاز. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(6).
والدليل على ذلك:
__________
(1) ـ في (ب) و(ج): حدثنا.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/136، ومنه قطر بن خليفة.
(3) ـ في (ب) و(ج): فكل ذلك يؤكد.
(4) ـ في (ج): وأيضاً.
(5) ـ انظر الأحكام 1/85.
(6) ـ انظر الأحكام 1/85.(10/12)
ما أخبرنا به محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، أنَّه أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، والله، إني لأحبك في الله. قال: ولكني أبغضك في الله. قال: ولِم؟ قال: لأنك تتغنى في الأذان، وتأخذ على تعليم القرآن أجراً، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: (( من أخذ على تعليم القرآن أجراً، كان حظه يوم القيامة )).
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: (( أُم قومك، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً )).
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ أنا قد بيَّنا فيما تقدم أن الأذان واجب على الكفاية، فإذا كان القيام به قيام عبادة واجبة، فيحرم أخذ الأجرة عليه قياساً على أخذ الأجرة على أداء سائر المفروضات من الصلاة والزكاة والجهاد، ونحو ذلك.
فإن قيل: إنكم تجوزون أن يأخذ القاضي على قضائه أجراً.
قيل له: لسنا نجيز ذلك على سبيل الأجرة، وإنما نجيز ذلك إذا شغل نفسه بمصالح المسلمين؛ ليكون عوناً له على ما هو فيه، وسبيله سبيل ما يعطَى الغازي يستعين به على مصالحه، لا على سبيل الأجرة.
فإن قيل: ألستم تجوزون أخذ الأجرة على بناء المسجد، وحفر القبر، وإن كان ذلك واجباً على الكفاية؟
قيل له: نحن منعنا جواز ذلك فيما يكون عبادة، وبناء المسجد وحفر القبر، لا يكونان عبادة، ألا ترى أنَّه قد يجوز أن يُبنى البناء لغير المسجد، ثُمَّ يُجعل مسجداً، وقد يجوز أن يحفر لغير الميت، ثُمَّ يُجعل قبراً، وليس كذلك الأذان؛ لأنَّه لا بد من أن يقصد به قصد العبادة.(10/13)
يكشف ذلك أن المشرك قد يجوز أن يُستحفر القبر، وأن يُستعمل فيما يكون عمارة المسجد، ولا يجوز أن يكون مؤذناً، فأما ما ذهبنا إليه من أن المؤذن يجوز له أن يأخذ ما يُعطى إذا لم يكن مشروطاً، فلا خلاف فيه، فإنه لا يجري مجرى الأجرة، وإنما(1) يجري مجرى الإحسان إليه كما يحسن إلى الغزاة، وأهل الفضل والدين من الفقهاء وغيرهم.
مسألة [ في الكلام أثناء الأذان والإقامة ]
قال: ويكره الكلام في الأذان والإقامة إلاَّ من ضرورة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2).
والوجه فيه أنهما عبادتان مختصتان بالنطق، فيكره أن يقطع بينهما، كالخطبة وسائر الأذكار، ويقوي ذلك ما استقر من عادة المسلمين أنهم لا يتكلمون فيهما، بل يستمرون فيهما من غير أن يتخللهما ما ليس منهما، وهي عادة لهم من أول الإسلام إلى يومنا هذا.
مسألة [ في أذان المحدث وإقامته ]
قال: ولا يجوز للمحدث أن يقيم، ولا بأس بأذانه، قال: وقال القاسم عليه السلام: ولا(3) يؤذن الجنب. وما ذكرناه(4) أولاً منصوص عليه في (الأحكام) (5)، وما حكاه عن القاسم عليه السلام منصوص عليه في (مسائل النيرسي).
وذكر يحيى عليه السلام في (الأحكام)(6) العلة في منع المحدث من الإقامة، فقال: "لأنَّه ليس بعدها إلاَّ الصلاة"، فكأنه شبهه بالخطبة؛ لأن الخطبة لما وليتها الصلاة، لم يخطب إلاَّ المتطهر، فكذلك الإقامة لا يقيمها إلاَّ المتطهر؛ لأن الصلاة تليها؛ ولأنه لم يُروَ عن أحد من مؤذني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أكابر الصحابة أنه أقام، ثُمَّ تطهر، بل كانوا يبتدئون الصلاة حين يفرغون من الإقامة، فبان أنهم لم يكونوا يقيمونها إلاَّ متطهرين.
__________
(1) ـ في (ج): بل.
(2) ـ انظر الأحكام 1/86.
(3) ـ في (أ): لا.
(4) ـ في (ب): ذكره.
(5) ـ انظر الأحكام 1/86.
(6) ـ الأحكام 1/86.(10/14)
فأما وجه ما قاله القاسم عليه السلام من أن الجنب لا يؤذن فهو أنَّه وجد الجنابة أغلظ من الحدث، ووجد الجنب ممنوعاً من دخول المسجد، وقراءة القرآن فمنعه من الأذان؛ لأنَّ هذه أمور كلها تختص الصلاة.
مسألة [ في الأذان والإقامة على النساء]
قال: وليس على النساء أذان ولا إقامة. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(1).
والوجه في ذلك أن الأذان والإقامة أمور شرعية، ولم يستقر في الشرع وجوبهما على النساء، إذ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهن بذلك.
وذكر أبو العباس الحسني رحمه الله في شرحه (للأحكام) أن عليّاً عليه السلام روي عنه أن المرأة لا تُؤذن، ولا تؤم، ولا تُنْكح، وإذا لم تؤذن لم تقم؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: [(( من أذن فهو يقيم ))، واستدل يحيى بن الحسين عليه السلام على ذلك بأن قال: إن الأذان هو الدعاء إلى الصلاة، وذلك برفع الصوت، وقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال](2): "النساء عي وعورات، فاستروا عيهن بالسكوت، وعوراتهن بالبيوت".
فلما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يسترن بالسكوت، دل ذلك على أن لا أذان عليهن.
واستدل أبو العباس الحسني رحمه الله تعالى على ذلك بأن قال: قال الله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِيْنَ مِنْ زِيْنَتِهِنَّ}[النور:31]، فإذا نهاهن عن إسماع أصوات أرجلهن، فلأن(3) ينهاهن عن أن يسمعن سائر أصواتهن أولى، فاقتضى ذلك أن لا أذان عليهن.
__________
(1) ـ الأحكام 1/87.
(2) ـ ما بين المعكوفين زيادة في (ج).
(3) ـ في (ب): كان.(10/15)