كتاب الصلاة
باب القول في الأذان
الأذان واجب على الكفاية. وقد نص يحيى عليه السلام في (المنتخب)(1) على أنَّه (واجب).
وقلنا: إنَّه على الكفاية لِما ثبت من مذهبه أنَّه لا يجب الأذان على كل إنسان؛ إذ قد نص على أن النساء ليس عليهن أذان(2)، وذكر أنَّه يجوز أن يؤذن للقوم غير من يُقيم لهم إذا اضطروا، فجعل مؤذن القوم غير مقيمهم، فدل أنَّه لا يوجبه على كل مصلٍ.
واستدل أصحابنا على وجوبه بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِيْنَ اتَّخَذُوا دِيْنَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} إلى قوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ...}الآية.
وروي أنهم كانوا إذا سمعوا الأذان قالوا: أذنوا لا أذنوا.
فدل ذلك على أن الأذان من الدين، فثبت بذلك وجوبه، ويدل على ذلك أيضاً:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي(3)، حدثنا أبو أمية، حدثنا المعلى بن منصور، أخبرنا عبد السلام بن حرب، عن أبي العميس، عن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن زيد، عن أبيه، عن جده، أنَّه أُرِيَ الأذان فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً فأذن، ثُمَّ أمر عبد الله فأقام، والأمر يقتضي الوجوب، فدل ذلك عل ما ذكرناه بوجوب الأذان.
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا الطحاوي، حدثنا مبشر بن الحسن، حدثنا أبو عامر العَقَدي، حدثنا شعبة، عن خالد الحذَّاء، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: أُمِرَ بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة(4).
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعي ابن عم لي، فقال لي: (( إذا سافرتما، فأذنا، وأقيما، وليؤمكما أكبركما )).
__________
(1) ـ المنتخب ص30.
(2) ـ الأحكام 1/87.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/142.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/142.(10/1)
فكل ذلك يقتضي الإيجاب، وأن قد أجمعوا على أن كل إنسان غير مخاطب به في نفسه على الانفراد، ثبت أن وجوبه على الكفاية كالجهاد، ودفن الميت وما أشبههما.
مسألة [ في وقت الأذان ]
قال: ولا يجوز أن يؤذن لصلاة من الصلوات الخمس قبل دخول وقتها. وقد نص على ذلك في (الأحكام)(1).
واستدل بما رواه ابن أبي شيبة، حدثنا أبو خالد، عن الأشعث، عن الحسن، قال: أذن بلال بليل فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينادي: أن العبد نام. فرجع فنادى أن العبد نام وهو يقول:
ليت بلالاً ثكلته أمه ... وابتلَّ من نضح دمِ جبينه
قال: وبلغنا أنَّه أمره أن يعيد الأذان.
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن جعفر بن الزبرقان، عن شداد مولى عياض بن عمرو بن عامر، عن بلال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( لا تؤذن حتى ترى الفجر هكذا ))، ومد يده.. أي معترضاً.
والنهي يدل على أن المنهي عنه لا يقع موقع الصحيح، فدل الخبر على أن الأذان قبل طلوع الفجر لا يقع موقع أذان الفجر.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثا فهد، حدثنا محمد بن سعيد الأصفهاني، أخبرنا شريك، عن علي بن علي، عن إبراهيم، قال: شيعنا علقمة إلى مكة، فخرج بليل فسمع مؤذناً يؤذن بليل، فقال: "أما هذا فقد خالف سنة أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لو كان نائماً لكان خيراً له، فإذا طلع الفجر أذن"(2).
فأخبر علقمة أن ذلك خلاف سنة أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فدل ذلك على أنهم أجمعوا على خلافه.
فإن قيل: روي: (( أن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/86.
(2) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/141 ـ 142.(10/2)
قيل له: لسنا نمنع الأذان قبل طلوع الفجر، لكن لا يجوز أن يعتد به للفجر، وفي الحديث: ((كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )). فقد بان أن الاقتصار على الأذان بليل لا يجوز، على أنَّه قد روي ما يدل على أن أذان بلال لم يكن للصلاة، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: (( إن بلالاً يؤذن بليل؛ ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )).
فإن قيل: فما الوجه فيما روي أن بلالاً أُمِرَ بإعادة الأذان حين أذن قبل الفجر، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (( لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر )). ثُمَّ روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم (( إن بلالاً يؤذن بليل ))؟
قيل له: يجوز ما روي أولاً من أمره بإعادة الأذان، ونهيه عنه قبل الفجر كان حين كان هو المنصوب لتأذين الفجر، ويدل على ذلك أنَّه كان في أول الأمر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم له: (( ناد: إن العبد نام )). فبان أن الناس لم يكونوا عهدوا النداء قبل الفجر، فخاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخطئ قوم فيصلوا قبل الفجر.
فأما ما روي أن بلالاً يؤذن بليل فيجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك؛ لأنَّه كان نصب لتأذين الفجر ابن أم مكتوم.
فإن قيل: إذا سُلم لنا أن الأفضل هو التغليس بالفجر، فلا بد من أن يقع الأذان قبل الفجر؟
قيل له: ليس الأمر على ما قدرت؛ لأن الأذان وإن وقع بعد طلوع الفجر، فإن القدر الذي يتأهب الإنسان فيه للصلاة لا يخرجه من أداء الصلاة في الغلس، على أن الأذان إنَّما هو دعاء إلى الصلاة لا إلى الاستعداد، فلا يجب أن يتقدم على وقت الصلاة، على أن من أراد الأفضل يمكنه أن يستيقظ قبل الفجر، ويستعد حتى يصادف الوقت مستعداً كما يفعله المؤذن نفسه، فبان بهذه الوجوه أنَّه لا معنى لتعلقهم بما تعلقوا به.(10/3)
ويدل على ذلك أنَّه لا خلاف في أن سائر الصلوات سوى الفجر لا يجوز أن يؤذن لها قبل وقتها، فكذلك الفجر قياساً على سائر الصلوات؛ بعلة أنَّه أذان جعل دعاء إلى الصلاة فلا يجوز أن يتقدم على وقتها (ونبه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على هذه العلة بقوله: (( إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ))، فنبه على أن أذانه لما لم يكن للصلاة قدم على وقتها)(1).
وحكي عن الشافعي أنَّه ترك القياس في هذه للسنة، وذلك لا معنى له؛ لأن السنة قد شهدت بصحة ما قلناه، وعضدها القياس على ما بيناه، وليس لأحد أن يستدل على ذلك بفعل أهل المدينة؛ لأنَّه لم يثبت أنهم حجة، بل هم كغيرهم، على أن ما بيناه عن علقمة أنَّه قال حين سمع الأذان قبل الفجر: هذا قد خالف سنة أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يبين أن فعل أهل المدينة في هذا الباب خلاف السنة.
مسألة [ في آذان الأعمى والمملوك وولد الزنى ]
قال: لا بأس بأذان الأعمى، والمملوك، وولد الزنا، إذا كانوا من أهل الدين. وهذا منصوص عليه فيه في (الأحكام)(2).
يبين صحة ذلك ما ثبت أن ابن أم مكتوم كان أعمى، وكان يؤذن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويعتد بأذانه، فكون الرجل مملوكاً، أو ولد زنا لا تأثير له في هذا الباب، فوجب أن يكون سبيلهما في ذلك سبيل سائر المسلمين، وإنما اشترطنا أن يكونوا من أهل الدين ليكونوا من أهل المعرفة بالأوقات، ولتجوز الثقة بهم وبأذانهم، وليس يتخصص به الأعمى، وولد الزنا، والمملوك، فإن غيرهم ـ أيضاً ـ يجب أن يكونوا من أهل الدين ليُسكن إلى أذانهم، على أن من لم يكن بهذه الصفة، فلسنا نمنع الاعتداد بأذانه، إذا كان من أهل الملة، إلاَّ أن الأولى ما ذكرنا.
مسألة [ ويجوز أن يقيم غير المؤذن للحاجة ]
__________
(1) ـ ما بين القوسين زيادة في (ج).
(2) ـ انظر الأحكام 1/87.(10/4)
قال: ولا بأس أن يقيم للقوم غير مؤذنهم إن اضطروا. وهذا أيضاً منصوص عليه في (الأحكام)(1)، والوجه(2):
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن زياد، عن زياد بن نعيم، أنَّه سمع زياد بن الحارث الصدائي يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما كان أذان الصبح أمرني فأذنت(3)، ثُمَّ قام إلى الصلاة، فجاء بلال يقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن أخا صداء أذن، ومن أذن فهو يقيم ))(4).
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص، عن الشيباني، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: رأيت أبا محذورة جاء ـ وقد أذن إنسان ـ فأذن هو، وأقام، فدل على أن إعادته الأذان حين أراد الإقامة على أنَّه يكره أن يقيم إلاَّ من أذن.
وروي أن ابن أم مكتوم كان يؤذن، ويقيم بلال، وربما أذن بلال، وأقام ابن أم مكتوم.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بلالاً أن يؤذن، ثُمَّ أمر عبد الله، فأقام ـ يعني عبد الله بن زيد الأنصاري ـ وقد تقدم إسناده قبل هذه المسألة، فحملنا هذه الأخبار على الاضطرار، ليكون ذلك جمعاً بين الأخبار والآثار(5).
مسألة [ في كلمات الأذان ]
قال: والأذان خمس عشرة كلمة، يقول المؤذن: (الله أكبر، الله أكبر . أشهد أن لا له إلاَّ الله، أشهد أن لا إله إلاَّ الله. أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة. حي على الفلاح، حي على الفلاح. حيّ على خير العمل، حي على خير العمل. الله أكبر، الله أكبر. لا إله إلاَّ الله).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/87.
(2) ـ في (ج): والوجه فيه.
(3) ـ في (ب) و(ج): فغادرت.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/142.
(5) ـ في (ب): جمعاً بين الأخبار. وكتب في الهامش في نسخة الآثار.(10/5)