وربما استدل أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية لصحة ما ذهبوا إليه، فقالوا: إن قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}(1)، نكرة في سياق نفي(2)، وذلك يوجب التعميم، وظاهرها يوجب أن الواجد لنبيذ التمر ليس له أن يتيمم؛ لأنَّه واجد ماءِ مَّا، وهذا بعيد جداً، وذلك أن اللفظ مُنَكَّراً ـ كان ـ أو مُعّرفاً، واقتضى التعميم أو التخصيص، فلا أقل من أن يكون بتناوله واجداً، فقد بينا أن اسم واجد الماء لا يتناول واجد نبيذ التمر، كما أن اسم واجد التمر لا يتناوله، فسقط تعلقهم بالآية، وصح استدلالنا بها.
المسألة الثالثة [ في الماء المستعمل ]
أن الماء المستعمل لا يجوز التطهر به، وقد ذكرنا ما قاله يحيى عليه السلام في (المنتخب)(3)، من منع التطهر بما استعمل بمعنىٍ من المعاني.
وكان أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه اللّه يذهب إلى أن المراد به ما اُستعمل في فرضٍ أو نفلٍ دون التَّبرد ونحوه، ويخرِّج ذلك من قول يحيى عليه السلام في (الأحكام)(4): "ولا بأس أن يتطهر بسؤر المرأة الحائض إذا لم يصبه من القذر شيء، ولم تكن أدخلت يديها فيه قبل أن تغسلهما"(5)، فكان رحمه اللّه، يقول: إن هذا الكلام يقتضي المنع(6) من استعمال الماء الذي اسُتعمل تنفلاً؛ لأن الحائض لا تغسل يديها فرضاً، وإنما تغسلهما نفلاً وقد منع عليه السلام من استعمال الماء الذي أدخلت يديها فيه، ويقتضي أنَّه إذا استعمل على غير وجه أداء الفرض والنفل، لا يكون مستعملاً؛ لأنه عليه السلام استثنى إدخالها اليد قبل أن تغسلها، وترك ما سوى ذلك على الإباحة، فبان أنَّها لو أدخلت يدها فيه بعد غسلها على غير أداء الفرض، والنفل لم يصر مُستعملاً.
__________
(1) في (ب): ماءً فتيمموا.
(2) في (ب): في نفي.
(3) انظر المنتخب ص23. وقد سبق.
(4) انظر الأحكام 1/56.
(5) في (أ): يدها فيه قبل أن تغسلها.
(6) في (أ): أن المنع.(2/10)


ومما يدل على أنَّه لا يجوز التطهر بماءٍ مستعمل(1) على الوجه الذي ذكرنا:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو عوانه، عن داود بن عبدالله، عن حميد بن عبد الرحمن، قال: لقيت مَنْ صَحِب النبي اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كما صحبه أبو هريرة أربع سنين، قال: (( نهى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل )).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا معلى بن أسد، قال: حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن عاصم الأحول، عن عبد اللّه بن سَرجس، قال: نهى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان جميعاً(2).
واسم الفضل من الماء يقع على ما يفضل في الإناء عن المغتسل، وعلى ما تساقط من أعضائه بعد الاستعمال، وإذا قد ثبت أن الفاضل في الإناء غير ممنوع التطهر به، فقد صح أن المراد بالفاضل هو المتساقط عن الأعضاء.
ويبين أن الفاضل في الإناء يجوز استعماله:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم اغتسلت من جنابة بماء في إناء فأبقت في الإناء منه شيئاً، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ به، فقالت له(3): يا رسول الله، إنَّه بقايا ما اغتسلت به. فقال: (( إن الماء لا ينجسه شيء ))(4).
__________
(1) في (أ): استعمل.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/24، عن ابن خزيمة، به.
(3) سقط من (أ): له.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/26، عن أبي بكرة، به. إلا انه لم يذكر فيه: فأبقت منه في الإناء شيئاً، أنه بقياء ما اغتسلت به.(2/11)


وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا الوهبي، قال: حدثنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: كنت أغتسل أنا ورسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من إناءٍ واحد(1).
ومن المعلوم أنهما إذا اغتسلا من إناء واحد فكل واحد منهما قد اغتسل بما فضل في الإناء عن صاحبه، فصح ما قلنا: إن المراد بالنهي هو ما يتساقط عن الأعضاء. ويمكن أيضاً أن يُتعلق بعمومه؛ إذ قد ثبت على ما بينا(2) أن اسم الفضل يتناول الساقط عن الأعضاء، والفاضل في الإناء، فيجري النهي على عمومه، ونخص منه ما يجب تخصيصه.
ومما يدل على صحة ما نذهب إليه من المنع من التطهر بالماء المستعمل:
ما أخبرنا به أبو الحسين علي بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا محمد بن شجاع، قال: حدثنا يحيى بن حماد، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن عجلان، قال: سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( لا يبولَنّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من جنابة )).
فإذا ثبت بهذا الخبر النهي عن الاغتسال في الماء الدائم، ثبت أن الاغتسال يؤثر فيه، وأقل التأثير المنع من التوضئ به، ولا يجوز القول بخلافه؛ لأنه يؤدي إلى أن لا يكون لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فائدة.
فإن قال قائل: لا يمتنع أن يكون النهي عن الاغتسال من الجنابة لم يكن للاستعمال، وإنما كان للنجس الذي يكون في الأغلب على جسد الجنب؟
__________
(1) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/25، عن ابن أبي داود، به.
(2) في (ج): بما بينا.(2/12)


قيل له: هذا تخصيص بغير دليل، وذاك أنا(1) نعلم أنَّه قد يكون جنباً ليس على جسده شيء من النجس، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى نهياً عاماً كلَ جنب عن الاغتسال بالماء الدائم، فوجب أن يدخل فيه من على جسده نجس، ومن ليس على جسده نجس فإذا صح تناول عموم النهي من ليس على جسده نجس، صح أن النهي للاستعمال، وصح ما ذهبنا إليه، على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد نبّه بنهيه عن البول فيه على النهي عن إلقاء سائر النجاسات فيه، فَحَمْل نهيه عن الاغتسال فيه على أنَّه نهي للنجاسة، حمل للخبر على التكرار، وسلب للفائدة الجديدة.
فإن قيل: إن(2) النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما منع عن الاغتسال في الماء الدائم بعد البول فيه، ألا ترى إلى قوله: (( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ))، ثم قال بعده: (( ولا يغتسل فيه من جنابة )) فليس يجب أن يكون نهياً للإستعمال بل يكون النهي؛ لأنه يصير مغتسلاً بالماء النجس؟
قيل له: ألفاظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا وردت وكانت كلها مستقلة بنفسها، ولم يكن في ظاهرها ما يقتضي حمل بعضها على بعض، كان الظاهر أن تكون كل لفظة منها مستبدة بحكمها على حيالها، حتى يكون الجمع بين تلك الألفاظ كالتفريق، فإذا(3) كان هذا هكذا، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم، ثم استأنف الكلام، فقال: لا يغتسلنَّ أحدكم في الماء الدائم من جنابة، فيكون النهي متناولاً للبول في الماء الدائم على حياله، وللاغتسال فيه من الجنابة على حياله.
على أن أبا جعفر الطحاوي، روى عن أبي هريرة بإسناده أنَّه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب )) فأفرد ذلك من النهي عن البول فيه(4).
__________
(1) في (أ): أنا قد.
(2) في (أ) بأن.
(3) في (ب) و(ج): وإذا.
(4) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/14 ـ 15، عن ابي هريرة بطرق مختلفة وألفاظ مختلفة.(2/13)


ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه من جهة النظر أن الماء إذا أزيلت به النجاسة، لم يجز التوضئء به، كذلك إذا(1) أزيل به الحدث، والمعنى أنَّه إذا أزيل به ما حصوله يمنع من الصلاة.
وليس لأحد أن يقول: إن هذا الأصل لا يستمر لكم على جميع المخالفين في هذه المسألة؛ لأن فيهم من لا يرى أن الماء الذي يزال به النجس يكون نجساً، اللهم إلاَّ أن يتغير به.
قيل له: ليس بواجب أن يكون كل أصل مقيس عليه متفقاً عليه، بل يكون تارة متفقاً عليه، وتارة مدلولاً عليه، ويكون المدلول عليه أوكد من المتفق عليه إذا كان الاتفاق بين الخصمين فقط، ولم يكن فيه اتفاق من الأمة، وسنذكر في هذا الكتاب ما يبين أن الماء الذي يزال به النجس يصير نجساً، فيصح أن نجعله أصلاً نقيس(2) عليه.
وعلتنا هذه يمكن أن ترجح بالحظر والنقل؛ لأن الماء قد ثبت فيه التطهير، ونحن ننقله بعلتنا هذه عما يثبت، ويمكن أن ترجح هذه العلة بما جرت عليه عادات المسلمين من لدن الصحابة إلى يوم الناس هذا، أن أحداً لم يكن يأخذ المتساقط من الماء عن العضو في المواضع التي يُعْوِزُ فيها الماء ويقل، حتى لا يحل في مثلها من المواضع إراقة ما يجوز(3) التطهر به، ويمكن أن يعتمد لذلك ما روي عن(4) النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه(5) قال لبني عبد المطلب لما حرم عليهم الصدقة: (( إن اللّه كره لكم غُسالة أوساخ أيدي الناس ))، فشبه ما حرم عليهم من الصدقة بالغسالة، فدل على ما قلناه.
فأما استدلال من يستدل منهم بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}، فقال: إن الطهور اسم المبالغة كالصبور والقتول والفروق، وذلك يقتضي التكرار، واقتضى ظاهر الآية أن تكرار التطهر مُتأتٍ في الماء.
__________
(1) سقطت من (أ): إذا. وفي حاشيته و(ب): الذي يظهر أن لفظة (إذا) محذوفة؛ لكي يستقيم المعنى.
(2) في (أ): ونقيس.
(3) في (أ وب): راقة ولا يجوز.
(4) في (أ): أن.
(5) سقط من (أ): أنه.(2/14)

4 / 138
ع
En
A+
A-