فقد نص يحيى عليه السلام في (الأحكام) على أنها إذا زاد دمها على العشر رجعت إلى أكثر عادة نسائها من قبل أبيها)(1).
ودل كلامه على أنها إن جهلت عادتهن، رجعت إلى أكثر الحيض؛ لأنَّه قال: ولسنا نؤقت لها وقتاً، لكنها لا تجاوز عشراً، فهو أكثر الحيض.
والوجه في ذلك أنَّه قد ثبت كون عادتها معتبرة، فإذا لم يكن لها عادة تعتبر، كانت عادة نسائها أولى من غيرها قياساً على العادة لو كانت، والمعنى أنها أخص العادات بها في المحيض، والوجه لاعتبار أكثر عادتهن، وأكثر الحيض، أن أقل الحيض لا يكاد أن يكون عادة للنساء، وما زاد على الأقل من الأيام لا يكون بعضها أولى بأن يرجع إليه من بعض، فوجب الرجوع إلى الأكثر.
فإن قيل: اعتبار الأقل أولى؛ لأنَّه يقين؟
قيل له: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر باعتبار المتيقن، في هذا الباب، وإنما أمر باعتبار العادة، ألا ترى أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل للمستحاضة: أُتركي الصلاة أقل أيام حيضك(2)، (وإنما أمرها أن تدع الصلاة أيام حيضها)(3)، فأمرها أن ترجع إلى العادة، فبان أن ما ذكرناه أولى.
مسألة [في حد الياس]
قال: وحد الإياس من الحيض ستون سنة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
ومن الناس من حَدَّ ذلك بخمسين سنة (وحدنا أولى؛ لأنه قد علم في حال كثير من النساء أنهن حضن بعد خمسين سنة)(4)، ولأن الستين أكثر ما قيل فيه فهو أولى لأنَّه لا مانع من تجويزه فوجب أن لا يحقق المنع منه إلا بدلالة شرعية، ولا دلالة عليه إلاَّ الإجماع.
مسألة [ما لايجوز للحائض]
قال: ولا يجوز للحائض دخول المسجد، ولا حمل المصحف، ولا قراءة القرآن، وكذلك الجنب. وهذا منصوص عليه في (الأحكام)، وروى فيه عن جده القاسم عليه السلام: أن الحائض والجنب لا يقرآن القرآن.
__________
(1) ـ ما بين القوسين من (ج).
(2) ـ في (أ) و(ب): في أيام الحيض.
(3) ـ ما بين القوسين زيادة في (ج).
(4) ـ ما بين القوسين من (ج).(8/14)


والوجه لمنع الحائض من دخول المسجد أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أمر أسماء بنت عميس حين نفست بمحمد بن أبي بكر أن تفعل جميع ما يفعله الحاج غير دخول المسجد الحرام، فثبت المنع من ذلك.
والنفاس والحيض في جميع الأحكام سواء، فإذا ثبت ذلك وجب المنع للحائض والنفساء من دخول المساجد بعلة أنها مساجد، ويقاس عليه الجنب بعلة أنَّه ممنوع من الصلاة إلاَّ بعد الغسل مع السلامة.
والمنع من حمل المصحف لقول اللّه تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}[الواقعة:79]، وهذا لا يخلو إما أن يكون خبراً، أو نهياً، (ولا يجوز أن يكون خبراً لوقوع مخبره على خلاف الخبر، فوجب أن يكون نهياً)(1).
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو لئلا يمسوه، وذلك يؤكد ما قلناه.
وأما وجه المنع للحائض والجنب من قراءة القرآن فهو:
ما حدثنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا عمرو بن حفص(2)، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، قال: حدثنا عمرو بن مرة، عن عبد اللّه بن سلمة، عن علي عليه السلام، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ القرآن على كل حال، إلاَّ الجنابة(3).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن عمرو بن يونس السوسي الثعلبي، حدثنا يحيى بن عيسى، عن ابن أبي ليلى، عن عبد اللّه بن سلمة، عن علي عليه السلام، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا القرآن على كل حال، إلاَّ الجنابة(4).
__________
(1) ـ ما بين القوسين من (ج) فقط.
(2) ـ في (ب) و(ج): أبي حفص.
(3) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/87.
(4) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/87.(8/15)


وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا بن أبي داود،حدثنا عبد اللّه بن يوسف، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يقرأ الجنب ولا الحائض القرآن ))(1).
مسألة [ في الوطء أيام الحيض، وما ذيستحب للحائض ]
قال: ولا يأتيها زوجها في فرجها أيام حيضها، ولا بعد تصرمه حتى تغتسل. قال: وقال القاسم عليه السلام: فإن فعل أجزته التوبة والاستغفار، وله أن يأتيها فيما دون الفرج.
ويستحب لها في أوقات الصلاة أن تتطهر، وتستقبل القبلة وتسبح وتهلل، ويستحب لها أن تكحل عينيها، وتمشط شعرها، ولا تعطل نفسها.
ما ذكرناه من المنع من وطئ الحائض إلى تصرم حيضها قبل أن تغتسل، ولزوجها أن يأتيها فيما دون الفرج، منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب)(2).
وما(3) حكيناه عن القاسم عليه السلام في أن التوبة تجزيه من وطئ الحائض منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
وما ذكرناه من الاستحباب للحائض منصوص عليه في (الأحكام).
__________
(1) ـ أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/88.
(2) ـ انظر المنتخب ص29.
(3) ـ في (أ): وبما.(8/16)


فأما تحريم وطء الحائض، فلا خلاف فيه بين المسلمين، وقد نطق به ظاهر القرآن حيث يقول سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هَوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ..} الآية[البقرة:222]، وقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}[البقرة:222]، يدل على أن الحائض إذا تصرم حيضها، لم يحل وطأها حتى تغتسل، وذلك أن الآية قد قرأت بالتشديد والتخفيف جميعاً، والقراءتان في أنَّه يجب الأخذ بموجبهما كالروايتين(1)، فإذا ثبت وجوبهما، فإما أن تستعملا على التخيير، أو على الجمع، وإذا بطل التخيير بالإجماع بأنه لو كان كذلك، لحل وطؤها إن(2) اغتسلت، وإذا لم ينقطع الحيض، فلم يبق إلاَّ وجوب استعماله، على الجمع على ما نذهب إليه.
ومما يدل على ذلك ـ مع أن القراءة بالتخفيف ـ أن التحريم حصل منوطاً بغايتين إحداهما الطهر، والآخر التطهر؛ لأنَّه تعالى قال: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فِإِذَا تَطَهَّرْنَ فَآتُوهُنَّ}[البقرة:222]، فلا يرتفع المنع إلاَّ بحصولهما معاً، ألا ترى أن من قال لامرأته: أنت طالق إذا(3) دخلت الدار فصليت لم تطلق حتى يقع منها دخول الدار والصلاة جميعاً.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}، هو الحد الذي انتهى إليه الحظر، وما بعده تأكيد له.
__________
(1) ـ في (ب) و(ج): كالآيتين.
(2) ـ في (أ): وإذا.
(3) ـ في (أ): إن.(8/17)


قيل له: هذا إنما يكون كذلك لو كان الكلام، انقطع بعده، فأما إذا اتصل بغيره، فمجموعهما الحد الذي انتهى إليه الحظر، وهذا مثل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوجاً غَيْرَهُ فِإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا}[البقرة:230]، فلم يُحل لهما التراجع إلاَّ بحصول الشرطين اللذين هما نكاح(1) زوج آخر، وطلاقه لمَّا تعلق الحكم بهما، وجُعلا غايتين له، على أن المخالف لنا في هذا ليس ينكر أن من كانت أيامها دون العشر، فانقطع حيضها، فلا يحل لزوجها وطؤها قبل الغسل، إذا لم يمض عليها وقت صلاة (بعد تصرم الحيض، فنحن نقيس عليها التي مضى عليها وقت الصلاة)(2)، أو تكون أيامها عشراً؛ لعلة أنها لم تغتسل من حيضها من غير تعذر الغسل مع القدرة عليه، فوجب أن لا يحل وطؤها، وتعليلهم بمن مضى عليها وقت الصلاة بأنَّه قد حصل لها ما ينافي الحيض، وهو وجوب الصلاة؛ إذ الوجوب عندنا بآخر الوقت ينتقض بوجوب الغسل؛ لأن وجوب الغسل ينافي الحيض، وفرقهم بين الغسل والصلاة بأن الغسل يوجب(3) الحيض دون الصلاة لا معنى له، ولا فرق مع وجود العلة.
فإن قيل: المانع من الوطء كان هو الحيض، فلما ارتفع الحيض زال المانع(4).
قيل لهم: نحن قد بينا أن إباحة الوطئ بعد المنع تعلق بأمرين، فلا معنى لقولهم: لما ارتفع الحيض، زال المنع، على أن الأمر فيه لو كان على ما قالوا، لوجب أن يحل وطء من تصرم حيضها قبل العشر، وإن لم يخرج وقت الصلاة، ولم تغتسل، والأمر عندهم بخلاف ذلك، فبان سقوط سؤالهم.
وأما وجه قول القاسم عليه السلام أن من وطئ امرأته في الحيض أجزته التوبة والاستغفار، فهو:
__________
(1) ـ في (أ): حصول نكاح.
(2) ـ ما بين القوسين من (ج) فقط.
(3) ـ في (ب) و(ج): موجب.
(4) ـ في (ب): المنع.(8/18)

38 / 138
ع
En
A+
A-