وكون أكثره مما لا حد له مما لا إشكال فيه، ولا خلاف، فالكلام فيه لا يجدي.
والمروي عن جعفر بن محمد، أن أقل الطهر عشر، وهو مذهب الإمامية.
والذي يدل على ذلك قول اللّه تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْض قُلْ هُوَ أَذىً}[البقرة:222]، ولو خلينا، وظاهر هذه الآية لقلنا: إن المرأة متى انقطع الدم عنها كانت طاهرةً لقول اللّه تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً}، فإذا لم يكن أذى فالظاهر يقتضي أن لها حكم الطهر، ولقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}[البقرة:222]، وهذا ـ أيضاً ـ يقتضي أن المنع من مقاربتها في الحيض هو إلى أن ينقطع الدم عنها، فلما كان هذا كله(1) هكذا، وأجمع المسلمون على أن ما دون العشر من النقاء لا يكون طهراً، سلمناه للإجماع، واستثنينا ذلك من الظاهر، وبقي ما زاد على ذلك، وهو العشر التام على موجب حكم الظاهر طهراً.
ويدل على ذلك: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا علي بن زيد بن مخلد، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، عن إسماعيل بن أبي خالد(2)، عن عامر الشعبي، عن علي عليه السلام، أن رجلاً أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين، إني طلقت امرأتي تطليقة، وإنها ادعت أنها حاضت في شهر واحد ثلاث حيض. فقال علي لشريح ـ وكان عنده جالساً ـ: اقض بينهما. فقال: أقضي بينهما، وأنت هاهنا يا أمير المؤمنين. فقال: لتقضينَّ بينهما. فقال: إن جاءت ببينة من بطانة أهلها ممن ترضون دينه وأمانته يشهدون أنها حاضت في شهر ثلاث حيض، تطهر عند كل وقت صلاة، وتصلي، فهو كما قالت، وإلا فهي كاذبة. فقال علي عليه السلام: قالون، وهي بالرومية صدقت.
ومن المعلوم أن حصول ثلاث حيض في شهر واحد باستكمال طهرين، مع ثبوت أقل الحيض ثلاث، لا يكون أقل الطهر إلاَّ عشراً، وفي هذا ثلاثة أوجه من الاستدلال:
__________
(1) ـ سقط من (ج): كله.
(2) ـ في (ب) وهامش (أ): عن أبي خالد. وفي (أ): عن ابن خالد.(8/4)


أحدها: أنَّه إذا روي عن أحد من الصحابة شيء، ولم يرو عن غيره خلافه، جرى ذلك مجرى الإجماع.
والثاني: أن هذه التحديدات وغيرها مما لا مساغ لها في الاجتهاد، إذا قالها الصحابي، كان محمولاً على أنَّه قال: لنص(1) عنده من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتفرع على هذا كثير من مسائلنا.
والثالث: أن من أصلنا أن علياًّ عليه السلام إذا قال قولاً، وجب إتباعه.
مسألة [ فيما تفعل المرأة إذا انقطع الدم ثم عاد ]
قال: ولو أن امرأة كانت عادتها خمسة أيام، ثم زادت، تركت الصلاة إلى تمام عشرة أيام، فإذا(2) انقطع الدم في العاشر أو دونه، كان الدم الزائد حيضاً، إذا وليه طهر صحيح، فإن تمادى بعده، كانت استحاضة، وعلى المرأة قضاء ما تركت من الصلاة في الأيام التي زادت على عادتها.
ذكر يحيى عليه السلام في (الأحكام) (3)، فقال: "وقد يكون الحيض أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً وثمانياً وتسعاً وعشراً"، بعد تنصيصه أن(4) أقل الحيض ثلاث، وأن أكثره عشر.
فدل ذلك على أنَّه أراد به أن الزائد على العادة في هذه الأيام قد يكون حيضاً، ثم قال بعد ذلك: فأما إذا جاوز العشر فهي مستحاضة، تفعل ما تفعل المستحاضة.
فدل ذلك على أن الدم إذا زاد على العشر كان كله ـ أعني الزائد على العادة ـ استحاضة، وقد نص هو على أن المستحاضة تصلي وتصوم(5)، فوجب إعادة ما تركت من الصلاة، وقد ثبت أنها مستحاضة.
والذي يدل على صحة ما ذكرناه أنَّه لا خلاف أن العادة يجوز فيها الانتقال إلى الزيادة، وإلى النقصان، فإذا ثبت ذلك، فالتي تكون عادتها خمسة أيام إذا زاد عليها الدم، كان الظاهر من أمرها أن الدم الزائد حيض؛ لأنَّه دم حيض رأته المرأة في وقت يمكن فيه الحيض متعرياً من أمارة الاستحاضة، فيجب أن يكون سبيله سبيل الدم الذي تراه المبتدأة في أنها تحيض عنده.
__________
(1) ـ في (أ): بنص.
(2) ـ في (ب) و(ج): فإذا.
(3) ـ الأحكام 1/72.
(4) ـ في (أ): على أن.
(5) ـ انظر الأحكام 1/76.(8/5)


واشترطنا انقطاعه في العاشر، ونريد بالانقطاع أن ينقطع ويليه طهر صحيح؛ لأن ذلك لو لم يكن، لكانت أمارة الاستحاضة قائمة، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم للمستحاضة: (( اقعدي أيام حيضك ـ وفي بعض الأخبار أيام أقرائك ـ ثم اغتسلي، وصلي، ولو قطر الدم على الحصير قطراً ))، فلذلك قلنا: إن الدم إذا تمادى، كانت المرأة مستحاضة فيما زاد على عادتها.
مسألة [ في تغير العادة ]
قال: ولو أن امرأة رأت الدم خمساً، ثم من بعد ذلك ستاً، ثم من بعد ذلك سبعاً، ثم استحيضت، كانت عادتها ستاً؛ لأنها تثبت بقرأئن.. تخريجاً.
كان أبو العباس الحسني رحمه اللّه يُخرِّج أن العادة تكون بقراين من قول يحيى عليه السلام(1): ليس في الاستحاضة عندنا وقت مؤقت غير ما تعلم المرأة من نفسها في أيام عادتها(2).
وكان يقول رده(3) أمرها إلى أقرائها، يدل على أنَّه لا يعتبر قرأً واحداً، ولا أحد قال إن العادة لا تثبت بقرائن، فوجب حمل قوله أيام أقرائها على أيام قرئيها(4).
والذي يدل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (( اقعدي أيام أقرائك )) فإذا ثبت ذلك، فالتي تكون عادتها خمساً إذا حاضت ستاً، ثم سبعاً، تكون(5) قد حاضت ستاً مرتين، فلذلك قلنا: إن عادتها تكون ستاً.
مسألة [ متى تقضي الحائض الصلاة ]
قال: ولو أن امرأة رأت الدم في الأيام التي يصلح(6) فيها الحيض تركت الصلاة، فإن انقطع في كمال العشر أو دونها، ووليه طهر صحيح، كان حيضاً، وإن كان غير ذلك، كان استحاضة، وعليها قضاء ما تركت من الصلاة، إلاَّ أن تكون الأيام أيام العادة فترجع إليها، وقد مضى الكلام في مثله مشروحاً، فلا طائل في إعادته.
مسألة [ في الصفرة والكدرة ]
__________
(1) ـ في (ج): يحيى عليه السلام في الأحكام. وانظر الأحكام 76.
(2) ـ في (ب) و(ج): أقرائها.
(3) ـ في (أ): قرئها.
(4) ـ في (أ): رد.
(5) ـ في (ب) و(ج): عادتها.
(6) ـ في (أ): يصح.(8/6)


قال: "والصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، وفي غير أيام الحيض ليست حيضاً".
وقد نص على ذلك في (الأحكام) (1)، وقال: "حكمه حكم الدم".
وقال القاسم عليه السلام في (كتاب الطهارة) ما كان منه بين دفقات الدمين(2) في أوقات الحيض، فهو حيض(3)، فأجراه مجرى النقاء؛ لأن النقاء إذا توسط الدمين في وقت الحيض، فهو حيض.
فأما ظاهر قول يحيى عليه السلام فهو يقتضي أنَّه بمنزلة الخالص؛ لأنَّه جعل ما كان منه في أيام الحيض حيضاً، وما كان في غير أيام الحيض، لم يجعله حيضاً، وهذا حكم الدم الخالص.
وكان أبو العباس الحسني رحمه اللّه يحمل قول يحيى عليه السلام على قول القاسم عليهما السلام، ويجعل القولين قولاً واحداً، ويقول: إن يحيى عليه السلام أراد ما كان منه بين الدمين.
ووجه قول يحيى عليه السلام هو أنَّه لا خلاف في أن الصفرة والكدرة بين الدمين تكون محيضاً إذا كانا في وقت الحيض، فيجب أن تكون محيضاً، وإن انفردت، والمعنى أنَّه صفرة أو كدرة وجدت في وقت الحيض(4).
ويؤكد ذلك أن الكدرة والصفرة هما الدم المتغير، وتغيرهما من جهة اللون لا يبطل حكمهما، ألا ترى أن التي لم تحض لم تر الصفرة ولا الكدرة، فبان أنهما من الحيض.
وروي ـ أيضاً ـ عن عائشة أنها كانت تقول: لا تصلي حتى ترى العلامة(5) البيضاء.
وروي مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان عن عائشة أظهر وأشهر.
ووجه قول القاسم:
__________
(1) ـ الأحكام 1/77.
(2) ـ في (ب) و(ج): الدم.
(3) ـ في (أ) و(ب): من الحيض.
(4) ـ في (ب) و(ج): المحيض.
(5) ـ في (أ): الفضة. وفي هامش النسختين: ترى القطنة بيضاءة كالفضة. نسخة.(8/7)


ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رضي الله عنه، حدثنا(1) ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن محمد بن عمرو، عن ابن شهاب عن عروة(2)، عن فاطمة بنت أبي حبيش، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال لها: (( إذا رأيتِ الدم الأسود، فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان أحمر، فتوضئي، وصلي فإنما هو دم عرق )).
وأخبرنا أبو العباس، أخبرنا ابن أبي حاتم، حدثنا يزيد بن سنان البصري، حدثنا معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، حدثتنا أم هذيل حفصة بنت سيرين ـ أخت محمد بن سيرين ـ، عن أم عطية الأنصارية، قالت: ما كنا نُعِدّ الصفرة والكدرة شيئا.
فاعتبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم دم الحيض بأنه أسود دليل على أن الصفرة والكدرة ليسا من الحيض، وكذلك قول أم عطية يدل على ذلك.
مسألة [ في عدم اجتماع الحيض والحمل ]
والحيض لا يكون مع الحمل.
وقد نص على ذلك في (الأحكام)(3).
والدليل على ذلك ما روي عن علي عليه السلام، أنَّه قال: "رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم رزقاً للولد"، ولا يُعرف له من الصحابة مخالف، فجرى ذلك مجرى الإجماع، على أنا نوجب الاقتداء به، خالفه من خالف ووافقه من وافق.
ومما يدل على ذلك أن الحبلى تقاس على التي يئست من الحيض في أن لا مساغ للحيض في واحدة منهما، بدلالة أنها لو طلقت لكانت تعتد بغير الحيض، ويمكن ـ أيضاً ـ أن تقاس على المسنة بعلة أخرى، وهي انقطاع الدم عنها في غالب الأحوال مع السلامة، فكل امرأة صارت إلى حالة لا تكاد ترى الدم معها في غالب الأمور مع السلامة، يجب الحكم بأنها لا تحيض في تلك الحالة.
__________
(1) ـ في (ب) و(ج): أخبرنا.
(2) ـ في (ب): شهاب بن عروة، إلا أنه كتب في الهامش ما أثبتناه، وقال إنه هكذا في سنن أبي داود.
(3) ـ انظر الأحكام 1/75.(8/8)

36 / 138
ع
En
A+
A-