قيل له: لِما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا الوهبي، حدثنا ابن(1) إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن عمار، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين نزلت آية التيمم، فضربنا ضربة واحدة للوجه، ثم ضربنا ضربة أخرى لليدين إلى المنكبين ظهراً وبطناً(2).
فإن قيل: فإنكم لا تقولون بذلك، فكيف احتججتم به؟
قيل له: نحن نقبل من عمار، ونأخذ عنه ما يجري مجرى اللغة، كما نقبل من أبي ذؤيب الهذلي، وأبي وجزة السعدي وغيرهما، فقبلنا قوله لليدين إلى المنكبين من طريق الاسم، ولم نقبله من طريق الحكم؛ لأن ذلك لا يأخذ(3) منه إلاَّ أن يعزوه إلى الرسول عليه السلام، وهو لم يفعل ذلك، وإنما عزاه إلى نفسه وفعله، إلاَّ أن ذلك قد أجمع على خلافه، والإجماع عندنا يقطع ما تقدمه من الخلاف، فلا وجه للإشتغال به.
وكذلك إن(4) قيل: إن بعض الناس قد ذهب إليه؟
قيل له: لم يعتبر به؛ لأنَّه خلاف لا حكم له، ويدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا أبو جعفر الطحاوي، حدثنا محمد بن الحجاج، حدثنا علي بن معبد، حدثنا أبو يوسف، عن الربيع بن بدر، قال: حدثني أبي، عن جدي، عن أسلع التميمي، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فقال لي: (( يا أسلع، قم فارحل بنا )). قلت: يا رسول الله، أصابتني بعدك جنابة، فسكت حتى أتاه جبريل عليه السلام بآية التيمم، فقال لي: (( يا أسلع، قم، فتيمم صعيداً طيباً، ضربتين: ضربةً لوجهك، وضربة لذراعيك، ظاهرهما وباطنهما )). فلما انتهينا إلى الماء، قال: (( يا أسلع، قم، فاغتسل ))(5).
__________
(1) سقطت (ابن) من (ب).
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/110، إلا أنه قال: عن عبد الله.
(3) في (أ) و(ب): لا يقبل.
(4) في (أ): فإن.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/113.(7/11)


وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسد، حدثنا محمد بن ثابت العبدي، حدثنا نافع، قال: انطلقت مع ابن عمر إلى ابن عباس في حاجة لابن عمر، فقضى حاجته، فكان من حديثه ـ يومئذ ـ أنَّه قال: مر رجل على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في سكة من السكك، وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه، فلم يرد عليه السلام، حتى كاد الرجل يتوارى في السكة، فضرب بيديه على الحائط، فتيمم لوجهه، ثم ضرب ضربة أخرى، فتيمم لذرعيه. قال: ثم رد عليه السلام، وقال: أما أنَّه لم يمنعني أن أرد عليه السلام، إلاَّ أني كنت لست بطاهر(1).
وروى يحيى، عن أبيه، عن جده القاسم عليهم السلام، حدثني أبو بكر بن أبي أويس، عن الحسين بن عبد اللّه بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام، أنَّه قال: "أعضاء التيمم: الوجه، واليدان إلى المرفقين" (2).
وروي عن عروة(3)، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( في التيمم ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين )).
فإن قيل: روي أن عماراً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التيمم، فأمره بالوجه والكفين.
وروي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم تيمم، فمسح بوجهه ويديه؟
قيل له: أما ما روي أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم مسح بوجهه ويديه، فلا ينافي ما نذهب إليه؛ لأن الماسح إلى المرفقين مسح يديه، وإذا لم يذكر الحد الذي انتهى المسح إليه من اليد في حديث، لم يبطل ما ذكر من الحد في حديث آخر؛ إذ أحدهما لا ينافي صاحبه.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/85، عن حسين بن نصر وسليمان بن شعيب، قالا: حدثنا يحيى بن حسان، به.
(2) أخرجه الإمام الهادي في الأحكام 1/68 ـ 69.
(3) تم في جميع النسخ: عزرة.(7/12)


وأما ما روي أنَّه أمر بالوجه والكفين، فيجوز أن يكون السامع سمع الوجه واليدين، فروى على المعنى من حيث أنَّه اعتقد أن المراد بهما واحد، فليس فيه ما يوجب إسقاط حديثنا، على أن هذا التأويل أولى؛ ليصح استعمال الأخبار كلها، ويمكن أن يقال: أنه لم ينف مسح ما زاد على الكفين.
ويمكن أن يقاس التييم على الوضوء؛ بعلة أنها طهارة لحدث، فيجب أن تكون اليد مستوعبة إلى المرفق في التيمم، كاستيعابها في الوضوء، وقد أشار يحيى عليه السلام إلى هذا المعنى في (الأحكام) (1) حيث يقول: "وَحَد التيمم لمن لم يجد الماء، كحد الغسل لمن وجد الماء".
ويمكن أن تقاس اليد على الوجه؛ بعلة أن كل واحد منهما يثبت في التيمم، فيجب فيهما الاستيعاب كما وجب في الوجه.
مسألة [ في مقدار التراب ]
قال: ولا يجزئ حتى يعلق التراب بالكفين عند كل واحدة من الضربتين.
وذلك مخرج من قول يحيى عليه السلام في (الأحكام) (2) عند ذكر ما يجب على المتيمم: "ثم يمسح بما في كفه اليمنى من الصعيد يده اليسرى".
والذي يدل على ذلك قول اللّه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً..} الآية[المائدة:6]، فالكناية راجعة إلى الصعيد، فوجب أن يمسح ببعضه؛ لأن (من) هاهنا للتبعيض، ولا يمكن أن يمسح منه، إلاَّ إذا علق بالكف منه شيء.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرب بيديه عل الجدار، ثم مسح وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى، فمسح يديه، وفي هذا ما يبطل مذهبكم.
قيل له: ليس فيه علينا معتَرض، وذلك أن الجدار الجاف قد يكون عليه من الغبار ما يعلق بالكف، فلا يمنع أن يكون الجدار الذي ضرب عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عليه التراب.
فإن قيل: فقد روي أنه ضرب بيديه على الأرض، ثم نفضهما ومسح وجهه.
__________
(1) الأحكام 1/ 67 ـ 68.
(2) الأحكام 1/68.(7/13)


قيل له: ليس فيه أنَّه نفضهما حتى لم يبق عليهما شيء، فليس لكم فائدة فيه، على أن التراب قد أقيم مقام الماء، فكما يجب أن يلاقي الماء العضو المغسول، فالممسوح كذلك يجب أن يلاقيه التراب، والمعنى أن كل واحد منهما طهور.
مسألة [ متى يجب شراء الماء ]
قال: وإن وجد الماء يباع بثمن غال، وكان إخراج ذلك الثمن لا يجحف به، لم يجزه التيمم.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (1).
والوجه فيه أنَّه لا خلاف في أنَّ الإنسان بوجود الثمن واجدٌ للماء، إذا كان الثمن ثمن مثله، فيجب على هذا أن يكون سبيل الثمن سبيل الماء، في أنَّه يجب عليه إخراجه بالغاً ما بلغ، ما لم يجحف به، ويمكن أن يورد ذلك على سبيل القياس، فيقال: إن اشتراه بثمن مثله يجب بالإجماع، ولا يجوز التيمم، فكذلك إذا كان بثمن غال بالغاً ما بلغ، والمعنى أنَّ إخراج ثمنه لا يجحف به، يبين صحة هذه العلة أن ثمن مثله إن كان مجحفاً، لم يجب إخراجه، وإذا لم يكن مجحفاً، وجب ذلك، فبان أن الحكم في الأصل يتعلق بما ذكرناه.
وليس لأحد أن يقول: إن ذلك يؤدي إلى إتلاف المال، وذلك منهي عنه، وذلك أن إخراج الكثير من المال على هذا الوجه لو كان إتلافاً له، لكان إخراج اليسير من المال إتلافاً، وإتلاف اليسير كإتلاف الكثير في أنَّه منهي عنه، وإذا ثبت أن إخراج مثل ثمنه ليس بإتلاف، فكذلك إخراج الكثير.
مسألة [ فيمن يخاف التلف لقلة الماء ]
قال: ومن خشي على نفسه تلفاً إن تطهر بما معه من الماء، أجزأه التيمم.
وذلك منصوص عليه في (الأحكام) (2).
والذي يخرج على مذهب يحيى عليه السلام أنَّه إذا لم يخف تلفاً، وخاف من العطش ضرراً وعنتاً، كان له أن يستبقي الماء، ويتيمم؛ لأنَّه نص في الذي أصابه كسر، فقال: إن له أن يترك ذلك العضو إذا خاف عنتاً(3).
ونص القاسم عليه السلام على المجدور يخاف عنتاً أوتلفاً، أن له أن يتيمم.
__________
(1) انظر الأحكام 1/71.
(2) انظر الأحكام 1/69 ـ 70.
(3) انظر الأحكام 1/60.(7/14)


والأصل في ذلك أن اللّه تعالى أطلق للمريض التيمم؛ لِما يخاف من استعمال الماء، فإذا خافه الصحيح، ولم يأمن أن يلحقه تلف أو عنت، فيجب أن يجوز له التيمم قياساً على المريض؛ إذ المريض لم يجز له التيمم للمرض، وإنما جوز له لخوفه من استعمال الماء، بدلالة أن المريض الذي لا يضره الماء لا خلاف في أنَّه لا يجزئه التيمم إذا وجد الماء، وإذا كانت العلة ما ذكرناه في المريض وجب أن يكون حكم الصحيح حكمَه لمشاركتهما في العلة.
مسألة [ فيمن يخاف إن خرج للطلب ]
قال: وكذلك من خاف على نفسه، إن خرج في طلب الماء أية مخافة كانت، أجزأه التيمم، فإن لم يخف، وعلم أنه يلحق الماء قبل فوات الوقت، فعليه المسير(1) إليه، قربت المسافة إليه، أم بعدت.
وذلك ـ أيضاً ـ منصوص عليه في (الأحكام)(2).
والوجه في جواز التيمم لمن خاف على نفسه إن خرج في طلب الماء، هو الوجه الذي ذكرناه في المسألة الأولى، ووجه إيجاب المصير إليه إذا لم يخف تلفاً، ولا ضرراً، هو ما قدمنا القول فيه عند ذكرنا وجوب الطلب للماء على من أراد التيمم، فلا غرض في إعادته.
مسألة [حكم المتيمم يصلي ثم يجد الماء ]
قال: وإذا وجد الماء بعد ما تيمم وصلى ـ وهو في بقية من الوقت ـ فعليه الطهارة، وإعادة تلك الصلاة، فإن وجده بعد تقضي الوقت، لم يجب عليه إعادة تلك الصلاة، وعليه الطهارة لما يستأنف.
وذلك ـ أيضاً ـ منصوص عليه في (الأحكام)(3).
والوجه في ذلك أن التيمم عنده يجب أن يفعل في آخر وقت تلك الصلاة، وقد دللنا عليه قبل هذا الموضع، فإذا تيمم وصلى، ثم وجد الماء ـ وهو بعد في وقت من تلك الصلاة ـ وجب إعادة تلك الصلاة؛ لأن التيمم لا يكون فعل في آخر الوقت، وأمكنه أداء الصلاة متوضأً في الوقت.
__________
(1) في (ب) و(ج): المصير.
(2) انظر الأحكام 1/71.
(3) انظر الأحكام 1/67.(7/15)

34 / 138
ع
En
A+
A-