وذلك منصوص عليه في (الأحكام)(1).
والذي يدل على ذلك قول اللّه تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ..} الآية[المائدة:6]، فأوجب التيمم على المريض والمسافر، كما أوجب على الجائي من الغائط والملامِس، فكما أن الجائي من الغائط والملامِس يجب عليهما التيمم إذا أرادا القيام إلى الصلاة، فكلذلك المسافر، فأوجب ذلك أنه متى أراد القيام إلى الصلاة لزمه التيمم، وإذا ثبت ذلك في المسافر ثبت في الحاضر؛ إذ لا أحد فصل بينهما في ذلك في هذا الوجه.
وليس يعترض عليه بجواز فعل الفاقد إن تيمم وصلى به صلاة واحدة، ثم عدمه للثانية؛ لأن ذلك مخصوص بالإجماع، وما عداه باق على العموم، والذي يدل على ذلك أيضاً:
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا أبو أحمد الأنماطي، ومحمد بن إبراهيم بن إسحاق الدهان، قالا: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصنعاني، حدثنا عبد الرزاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: "من السنة ألا يصلي الرجل بالتيمم إلاَّ صلاة واحدة، ثم يتيمم للصلاة الأخرى".
فقول ابن عباس: "من السنة" إضافة له إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو كالنص عنه عليه السلام.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا هشيم، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام، أنَّه قال: "تَيمَّم لكل صلاة".
ويدل على ذلك أنا قد بينا فيما تقدم أن التيمم لا يجوز أن يفعل إلاَّ في آخر وقت الصلاة، فلو جوزنا أن يصلى العصر بتيمم قد فعل قبل آخر وقته، فذلك مما دللنا على فساده.
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ أنَّه لا خلاف في أن المستحاضة لا تصلي الصلوات كلها بطهارة واحدة، فكذا المتيمم، والمعنى أنها طهارة مفعولة على سبيل الضرورة، وإذا ثبت ذلك، فلا قول بعده، إلاَّ قول من يقول إنَّه لا يصلى بتيمم واحد إلا صلاة واحدة من المكتوبات.
__________
(1) انظر الأحكام 1/67.(7/6)
وليس لهم أن يعللوا بعلتنا هذه ويردوها إلى أصلنا هذا، فيقولوا: لما اتفقنا نحن وأنتم أن المستحاضة لا يجب عليها أن تتطهر لكل صلاة، فكذلك المتيمم، والمعنى أنها طهارة مفعولة على سبيل الضرورة، فإذا ثبت ذلك، فلا قول إلاَّ قول من يقول: إنَّه يصلي الصلوات أجمع بتيمم واحد، وذلك أن الوصف لا يؤثر في حكمهم في الأصل، ألا ترى أن الوضوء المفعول على سبيل الضرورة، والمفعول منه على سبيل الاختيار يشتركان في أنه لا يجب على المتوضئ أن يفعله لكل صلاة، فلا مزية في هذا الباب لكونها مفعولة على سبيل الضرورة، ولا تأثير لها، وليس(1) كذلك تأثيرها في حكم أصلنا، ألا ترى أن المفعول منه على سبيل الضرورة لا يجوز أن يصلى(2) به الصلوات أجمع، (والمفعول منه على سبيل الاختيار يجوز أن تصلى به الصلوات أجمع) (3)، فبان أن علتنا تؤثر في حكم أصلنا، وعلتهم لا تؤثر، فنحن إن شئنا، أسقطنا علتهم بكونها غير مؤثرة، وإن شئنا، رجحنا علتنا بالتأثير، وهذا الترجيح لا يقابله شيء من التراجيح، هذا إذا سلمنا أن العلة تصح من غير أن تكون مؤثرة.
ويمكن أن يقال فيه ـ أيضاً ـ: إنَّه قد ثبت أن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما يبيح الصلاة، فكما أن المحدث العادم للماء يجب أن يتمم إذا أراد القيام إلى الظهر، فكذلك يجب عليه تيمم ثانٍ إذا أراد القيام إلى العصر؛ لأنَّه محدث عادم للماء أراد القيام إلى الصلاة المكتوبة.
فإن استدلوا بقول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( جُعلَت تربتها لي طهوراً لمن لم يجد الماء )).
وبما روى أبو ذر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( الصعيد الطيب طهور لمن لم يجد الماء، ولو إلى عشر حجج )).
قيل له: نخص ذلك بالأدلة التي تقدمت، فلا معترض به علينا، على أن ذلك ورد لإجازة التطهر به، لا لكيفيته، فتعلقهم به بعيد.
__________
(1) في (ب) و(ج): فليس.
(2) في (ب) و(ج): يصلى.
(3) ما بين القوسين زيادة في (ج).(7/7)
مسألة [ في التيمم بغير التراب ]
قال: ولا يجوز التيمم بالنورة، والزرنيخ، وما أشبههما، ولا يجزي إلاَّ بالتراب لا غيره، فأما الرمل فإن كان فيه تراب يعلق بالكفين(1)، أجزأ، وإلا لم يجز. قال القاسم عليه السلام: ولا يجزي التيمم بتراب البَرذَعَة وشبهها.
ما حكيناه عن القاسم عليه السلام، قد نص عليه في كتابه المسمى بـ(كتاب الطهارة)، وما ذكرناه قبل ذلك منصوص عليه في (المنتخب)(2).
والذي يدل على ذلك قول اللّه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً طَيِّباً} مع قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يُخْرِجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِيْ خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً}[الأعراف:58]، فلما أمرنا بالتيمم(3) بالصعيد الطيب، ثم بين أن الطيب، يخرج نباته، علمنا أن التيمم يجزي بما يخرج نباته، وأن ما لا يخرج نباته لا يجزي التيمم به.
فإن قيل: إنكم لا تقولون بدليل الخطاب، فكيف يسوغ لكم أن تدعوا أن مالا يخرج نباته ليس بطيب؟
__________
(1) في (ب) و(ج): باليد.
(2) انظر المنتخب ص28.
(3) في (ب) و(ج): أن نتيمم.(7/8)
قيل له: ليس الاستدلال به من الوجه الذي قَدَرتَ، بل وجه الاستدلال منه هو: أن الألف واللام لما دخلا على البلد الطيب، دلا على الجنس؛ لأنهما إذا لم يدلا على المعهود، دلا على الجنس، فكأنه تعالى قال: كل البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، فيعلم أن مالا يخرج نباته ليس بطيب، على أن اسم الصعيد تناول التراب، وتناول وجه الأرض، ولا يدخل فيهما الزرنيخ والنورة، وما أشبه ذلك، فلو اقتصرنا على الاستدلال بقوله، فتيمموا صعيداً، لأغنى، على أن كون الشيء مطهراً يحتاج إلى دلالة شرعية، ولم يثبت في غير الماء والتراب أنَّه مطهر، فوجب الحكم بأن لا مطهر سواهما، ويدل على ذلك أنَّه لا خلاف أن من تيمم بنحاتة الحديد والنحاس(1) والذهب والفضة، وما أشبهها، لا يجزيه، فكذلك من تيمم بالزرنيخ، والنورة وما أشبههما، والعلة أنَّه تيمم بغير التراب.
مسألة [ في كيفية التيمم ]
قال: وإذا أراد التيمم، ضرب بيديه على التراب الطاهر، ثم مسح بيديه وجهه مسحاً غامراً، وأدخل إبهاميه من تحت غابَّته تخليلاً للحيته إن كانت، ثم عاد، فضرب يديه على التراب ضربة أخرى، وفرج بين أصابعه، ثم رفع يديه، فبدأ بمسح يمينه من ظاهرها من عند أظفارها حتى يأتي على ذلك إلى المرفق، ثم يقلب راحته اليسرى على باطن يده اليمنى، ثم يسمح جميع باطنها إلى راحته، وجميع يده وإبهامه، ثم يرد يده اليمنى على ظاهر يده اليسرى، فيفعل فيها(2) ما فعل باليمنى.
وذلك كله ذكره يحيى عليه السلام في (المنتخب)(3) بهذه الألفاظ، وأشار في (الأحكام) (4) إلى ما يؤدي إلى هذا المعنى، ونص فيه على أن تيمم اليدين إلى المرفقين، ورواه عن جده القاسم عليه السلام، وقد نص فيه ـ أيضاً ـ على أن التراب الذي يُتيمم به يجب أن يكون طاهراً.
__________
(1) سقط من (أ): والنحاس.
(2) في (ب) و(ج) بها.
(3) انظر المنتخب ص28، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.
(4) انظر الأحكام 1/68.(7/9)
وقد اختلف في مسح الوجه، فمن الناس من ذهب إلى أنَّه إن بقي منه شيء أجزأ، وأنَّ استيعابه غير واجب.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه قول اللّه تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيْكُمْ}[المائدة:6]، فوجب استيعاب كل ما يسمى وجهاً، إلاَّ ما قام دليله، وقد استقصينا الكلام في مثل هذا عند ذكرنا وجوب مسح جميع الرأس، فلا وجه لإعادته.
وذكره عليه السلام تخليل اللحية هو لإتمام الاستيعاب، على أن تخليل اللحية في الوضوء قد ثبت وجوبه عندنا، فلو قسنا عليه التيمم بعلة أنَّه طهارة حدثٍ يراد للصلاة، كان ذلك قريباً.
وأما قوله: يفرِّج بين أصابعه، فإني سمعت شيخنا أبا الحسين بن إسماعيل رضي اللّه عنه، يقول: إن المراد به أن يحصل التراب بين الأصابع حتى لا يبقى موضع من اليد لم يمسه التراب، وسمعته يقول: إنَّه عليه السلام، قال: فيمسح باطنها ـ يعني باطن يده ـ إلى راحته، ولم يقل ويمسح راحته؛ لئلا يصير التراب الذي عليه مستعملاً، فيمسح به يده اليسرى.
ومسح اليدين قد اختلف فيه، والذي يدل على أنَّه إلى المرفقين قول اللّه تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيْكُمْ مِنْهُ}[المائدة:6]، واسم اليد يتناول الكف مع الذراع إلى الإبط والمنكب، فالظاهر اقتضى مسحها إلى الإبط والمنكب، فصار المسح إليهما واجباً، إلاَّ مقدار ما خصه الدليل، وذلك وراء المرفقين؛ إذ هو مخصوص بالإجماع.
فإن قيل: ومن أين ادعيتم أن اسم اليد يتناول الكف إلى الإبط؟(7/10)