باب القول في التيمم
يجب التيمم على من تعذر عليه الماء المطلق من حاضر أو مسافر في آخر وقت صلاة لزمته، فإن كانت صلاته ظهراً، تحرى وقتاً يغلب عنده أنَّ ما يبقى بعدها من الوقت قبل غروب الشمس لا يتسع لأكثر من صلاة العصر وتيممها، وإن كانت صلاته عصراً، تحرى لها وقتاً، يغلب عنده أن يصادف فراغه منها غروب الشمس، وكذلك يتحرى للمغرب والعشاء حتى يصادف فراغه من العشاء طلوعَ الفجر، ويتحرى للفجر حتى يصادف فراغه منها طلوع الشمس، وهذه جملة تشتمل على ثلاث مسائل:
إحداهما: أنَّه لا فرق بين الحاضر والمسافر في وجوب التيمم عليه.
والثانية: أن التيمم لا يجوز إلا في آخر الوقت.
والثالثة: أن وقت الظهر والعصر ممتد إلى حين ما ذكرنا، وكذلك وقت المغرب والعشاء، وكذلك وقت الفجر.
فأما المسألة الثالثة، فإنها تختص كتاب الصلاة، ونحن إن شاء اللّه نذكرها إذا انتهينا إليه بشرحها.
وما يختص هذا الموضع، هذه المسألة الأولة والثانية، وكل ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (1).
المسألة الأولى [ في استواء الحاضر والمسافر في وجوب التيمم ]
الذي يدل على(2) أن من لم يجد الماء، يتيمم حاضراً كان أو مسافراً:
ما أخبرنا به محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( جُعِلَت لي الأرض مسجداً، وترابها طهوراً )). قال اللّه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً طَيِّباً}[المائدة:6]، فأطلق صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، ولم يستثن مقيماً من مسافر.
__________
(1) انظر الأحكام 1/66، 71.
(2) انظر الأحكام 1/66.(7/1)
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( جعلت تربتها لنا طهوراً، إذا لم نجد الماء ))، يعني الأرض.
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( الصعيد الطيب طهور لمن لم يجد الماء، ولو إلى عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك )).
فعلق صلى الله عليه وآله وسلم الحكم بعدم الماء دون المقام والسفر.
فإن قيل: إن الله ـ تعالى ـ علق جواز التيمم مع عدم الماء بالسفر.
قيل له: إنما ذكر ـ سبحانه ـ السفر كما ذكر جملة من الأحداث، ولم يدل ذلك على أنَّه لا يجوز في غير السفر، كما لا يدل على أنه لا يجزي من سائر الأحداث، وإنما ذكر السفر؛ لإن عدم الماء في غالب الأحوال يكون في السفر، والآية تقتضي جوازه في السفر، وليس فيها ذكر المنع من الإجازة في الحضر، وعموم ما رويناه عمن رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقتضي جوازه في السفر والحضر.
ومما يدل على ذلك أنَّه لا خلاف في أن المسافر إذا عدم الماء، يجوز له التيمم، فكذلك الحاضر، والعلة عدم الماء، بدلالة أن المسافر إذا وجد الماء، لم يجز له التيمم، وإذا عدمه جاز ذلك، فعلم أن الحكم تعلق بعدم الماء، على أن هذه العلة منصوص عليها بما رويناه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مما يرجحها ويقويها على كل ما يُعلَّل به مما يقتضي خلاف حكمها، على أن المخالف لنا في هذا هو أبو حنيفة، وهو يوافقنا على جواز التيمم في الحضر، إذا خاف فوت الصلاة على الجنازة، فكذلك سائر الصلوات؛ بعلة أن ترك التيمم يؤدي إلى فوت الصلاة، على أن الاحتياط للصلاة المكتوبة في السفر والحضر، إذا كان يؤدي تركه إلى فوتها أوجب.
المسألة الثانية [ متى يجوز التيمم ](7/2)
استدل يحيى عليه السلام(1) على أن التيمم لا يجوز إلاَّ في آخر الوقت بأن قال: قد ثبت أن اللّه تعالى أمر بالتيمم إذا كان الإنسان غير واجد للماء؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً طَيِّباً}[المائدة:6]، وقد ثبت أن الإنسان لا يصير غير واجد للماء، بأن لا يكون الماء في ملكه، ألا ترى أن من أمكنه أن يشتري، أو يستقي، يكون في حكم الواجد، فلا يكون غير واجد إلاَّ إذا يئس منه(2)، ولا يكون آيساً منه إلاَّ في آخر الوقت، فثبت أن التيمم لا يجوز إلاَّ في آخر الوقت.
فإن قيل: إن الذي أمكنه أن يشتريه أو يستسقيه أو (يستشفعه)(3) يكون واجداً له، وإن لم يكن مالكاً له، ومن لم يمكنه شيء من ذلك، يكون غير واجد له.
قيل له: لا يعتبر(4) بوجود الماء، وإنَّما يعتبر(5) أن يتمكن منه، أو يجد السبيل إلى التمكن، أو يطمع في ذلك، ألا ترى أن من وجد الماء مع غيره، وكان واجداً لثمنه، فليس له أن يتيمم، حتى يعلم أنَّه لا يبيعه، ولا يوصله إليه؟ فثبت أنَّه يصير غير واجد إذا كان على الصورة التي ذكرنا، وذلك لا يكون إلاَّ في آخر الوقت.
ومن أصحابنا من استدل على ذلك بأن قال: قد ثبت أن الطلب للماء قبل التيمم واجب، وسيجيء ذلك بعد هذه المسألة.
مسألة [ متى يجب الطلب ]
__________
(1) انظر الأحكام 1/66، 71.
(2) في هامش (ب): فإذا يكون غير واجد إذا يئس.
(3) ما بين القوسين زيادة في (أ).
(4) في (ب) و(ج): معتبر.
(5) في (ب) و(ج): المعتبر.(7/3)
قال: ولا يجب الطلب إلاَّ بعد وجوب الصلاة؛ لأنَّه تعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}[المائدة:6]، ومعناه أردتم القيام إلى الصلاة، وذلك لا يكون إلاَّ بعد دخول وقتها، ووجوبها، والطلب للماء يكون بعد وجوب التطهر، فإذا قد ثبت أن أول الوقت للطلب، فلا يجزي التيمم فيه، وليس بعد القول بالمنع من جوازه في أول الوقت، إلاَّ قول من جوزه في آخره، فثبت بذلك ما ذهبنا إليه، ومما يعتمد عليه:
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني رضي الله عنه، أخبرنا محمد بن بلال، أخبرنا(1) محمد بن عبد العزيز، حدثنا الحماني، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي عليه السلام في الجنب لا يجد الماء: يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن وجد الماء، وإلا تيمم، وصلى.
فقوله: يتلوم على طريق(2) الأمر دون الخبر؛ إذ لو كان على طريق الخبر لم يكن صدقاً، والأمر يقتضي الوجوب.
ومما يدل على ذلك أنَّه قد ثبت أن الاعتداد بالشهور لا يجوز للمطلقة إلاَّ بعد الإياس من القروء، فكذلك التيمم لا يجوز إلاَّ بعد الإياس من الطهور، والعلة أنَّه بدل لا قربة في فعله مع المبدَل، وليس ينتقض بشيء من أبدال الكفارات؛ لأن جميعها يجوز أن تكون قرباً بنفسها مع المبدَل، ومنفرداً عن المبدَل، بل سائر أبدال الكفارات تشهد بصحة هذه العلة؛ لأنها لما صحت(3) أن تكون بأنفسها قرباً مع المبدَل، لم تكن بدلاً إلاَّ مع الإياس من الاعتداد بالأقراء.
والشافعي يوافقنا على أنَّه لا يجوز التيمم قبل دخول وقت الصلاة، فكذلك لا يجوز قبل آخر الوقت؛ بعلة أنَّه تيممٌ فُعِل قبل آخر الوقت، فيجب أن لا يجوز، قياساً على ما يفعل منه قبل الوقت، وهذا القول مروي عن الحسن، وابن سيرين، وعطاء، رواه ابن أبي شيبة عنهم.
مسألة [ في وجوب طلب الماء ]
__________
(1) في (ج): حدثنا.
(2) في (أ): سبيل.
(3) في (ج): لم تصح، وظنن بها في هامش (ب).(7/4)
قال: وعليه الإراغة في طلب الماء قبل ذلك.
وهو منصوص عليه في (الأحكام)(1).
والذي يدل على ذلك قول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[المائدة:6]، فأمر الإنسان بالتيمم إذا لم يكن واجداً للماء، ولا يقال للإنسان: إنَّه غير واجد للشيء، إلاَّ إذا كان طَلَبه؛ متى أريد به التحقيق، فأما إذا لم يكن منه طلب للشيء، فإنما يقال: إنَّه ليس له، أو ليس معه، وإذا ثبت ما بيناه، ثبت وجوب الطلب، ويدل على ذلك:
ما روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم طلب الماء ـ ليلة الجن ـ من عبد الله، وسؤال الناس مكروه، إلا من ضرورة، وإذا لم يكن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة الاحتياج، فلا بد أن تكون ضرورة الشرع، وضرورة الشرع هي(2) الوجوب، فثبت بذلك وجوب الطلب.
وأيضاً روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: "يتلوم الجنب ما بينه وبين آخر الوقت"، وذلك أمر، وهو يقتضي الوجوب.
ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ أنَّه لا خلاف في أنَّه إذا وجده عند إنسان يبيعه أو عرفه في بئر بقربه، وجب عليه أن يطلبه، فكذلك إذا لم يعرفه، والعلة أنه غير آيس من وجود الماء في وقت الصلاة التي لزمته، وقياسنا هذا أولى من قياسهم الذي ردوه إلى سائر الأبدال، وقالوا إن المعتبر هو عدم المبدل فقط؛ لأنا رددنا حال المتيمم إلى حال المتيمم، ولاستنادها إلى الظواهر وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولأنها حاظرة، وموجبة للاحتياط، وزيادة عبادة، على أنا لسنا نسلم في سائر الأبدال أنَّه لا يجب فيها الطلب على وجه من الوجوه، بل نوجب في الكل طلبٌ مثله؛ لأن المُظاهِرَ إذا كان عنده مال، وكان هناك مملوك يباع، وجب عليه أن يشتريه ويعتقه، وهكذا القول في غيره.
مسألة [ التيمم لكل صلاة ]
قال: وعليه أن يجدد لكل صلاة تيمماً، إلاَّ أن تكون صلاة ونافلتها، فيجزيه تيمم واحد.
__________
(1) انظر الأحكام 1/71.
(2) في (ب): على، وظنن فوقها بهي.(7/5)