والأقرب على مذهب الهادي عليه السلام أن من صلى، ثم أيقن أنَّه كان نكس وضوءه على طريق السهو، وما يجري مجراه، أنَّه يقضي صلاته ما دام في وقتها، ولا يقضيها إن علم بذلك بعد تصرم وقتها، فقد نص على مثل ذلك فيمن تطهر بماء نجس، وهو لا يعلم، وما أشبه ذلك، فإن كان نكس وضوءه عامداً عالماً بأنه لا يجوز، فإنه يعيد الصلاة قبل تصرم الوقت وبعده(1).
والأصل في هذا أن من أخطأ فيما طريقه الإجتهاد من الطهارة والصلاة، ثم علم به في الوقت، فإن مذهبه أنَّه يعيد، وإن علم به بعد الوقت لا يعيد، وإن أخطأ فيما طريقه العلم، أو القطع، أو تعمد إيقاع الفعل على وجه لا يصح عنده ـ وإن كان طريقه الاجتهاد ـ فإنه يقضي الصلاة قبل تصرم(2) الوقت وبعده، فما ذكر في هذا الموضع هو فرع على الأصل الذي ذكرناه، وسيجيء الكلام فيه مستقصى في موضعه من كتاب الصلاة.
مسألة [ في تفريق الوضوء والغسل ]
قال: ولا بأس بتفريق الوضوء والغسل.
وقد نص على جواز تفريق الوضوء في (المنتخب) (3) وعلى جواز تفريق الغسل في (الأحكام) (4).
واستدل على ذلك بأن اللّه تعالى أمر بالغسل، فقال عزَّ وجل: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ..} الآية[المائدة:6]، وقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}[المائدة:6]، فكان الواجب هو غسل ما أمر اللّه تعالى بغسله، وسواء وقع الغسل على وجه التفريق، أو وجه(5) التتابع؛ إذ لم تتضمن الآية ذكر التتابع، ولا ذكر التفريق.
فإن قيل: قد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وضوء تابع فيه: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلاَّ به )).
قيل له: المراد به ما اشتمل عليه اسم الوضوء، والتفريق والتتابع لا ينطلق عليهما اسم الوضوء.
__________
(1) انظر الأحكام 1/120.
(2) سقطت (تصرم) من (أ).
(3) انظر المنتخب ص27.
(4) انظر الأحكام 1/51.
(5) في (أ): جهة.(6/14)
يدل على ذلك ما ذكرناه بإسناده فيما مضى من هذا الكتاب أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلاً يصلي وعقبه يلوح، فقال: (( إن كنت أمسسته الماء، فامض في صلاتك، وإن لم تكن أمسسته(1)، فاخرج من صلاتك )). فقال: يا رسول اللّه كيف أصنع؟ أَستقبل الطهور؟ قال: (( لا، بل اغسل ما بقي )). وهذا نص صريح فيما نذهب إليه في هذا الباب.
فإن اعتلوا لمذهبهم، فقالوا: هي عبادة مرتبط بعضها ببعض، فيجب أن تكون المتابعة شرطاً فيها قياساً على الصلاة، أو بأنها عبادة تبطل بالحدث، عارضناهم بقياسه على الزكاة، أنها عبادة يجوز تفريق النية عليها، فيجب أن يجوز تفريقها؛ إذ الزكاة جائز تفريق النية عليها، على أن قولهم: إن الوضوء عبادة مرتبط بعضها ببعض، فيجب أن يكون التتابع شرطاً فيها منتقض بالحج؛ لأنَّه عبادة مرتبط بعضها ببعض، ومع ذلك يجوز التفريق بين أبعاضه.
وترجح علتنا باستنادها إلى الظواهر من القرآن، وصريح قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبأنا رددنا عبادة ليس لها تحليل ولا تحريم إلى عبادة ليس لها تحليل ولا تحريم، فكان فرعنا بأصلنا أشبه.
ويمكن أن نقيس الكثير من التفريق على اليسير، بعلة أنَّه تفريق بين أبعاض الطهارة،
ويمكن أن نقيس ذلك على إزالة النجاسات، فنقول: إن التفريق فيه يجوز كما يجوز في إزالة النجس، والمعنى أنها طهارة تراد لاستباحة الصلاة.
وهذان القياسان مرجحان بالتنجيس(2)؛ لأن الأول هو رد حكم الوضوء إلى حكم له، والثاني يرد ما يتوصل به إلى الصلاة إلى ما يتوصل به إلى الصلاة.
مسألة [ في الأحداث المختلفة يجزي عنها غسل واحد ]
قال: والجنابة والحيض يجزي عنهما غسل واحد، وكذلك الأحداث الكثيرة يجزي عنهما وضوء واحد.
وقد نص في (الأحكام)(3) على ذلك في الجنابة والحيض.
__________
(1) في (أ): أمسست.
(2) في (ب) و(ج): التجنيس.
(3) انظر الأحكام 1/61.(6/15)
والوجه في ذلك : أن الحدث لا يوجب الوضوء، ولا الحيض يوجب الغسل ولا الجنابة، وإنما يجب(1) الوضوء والاغتسال إذا أراد الصلاة، أو قراءة القرآن، أو ما يجري مجرى ذلك، يدل على ذلك أن الإيجاب لو كان يرجع إلى الأحداث أو الحيض، أو الجنابة، لكان يجب عقيب ذلك، ولا خلاف أن الإنسان له أن يؤخر ذلك إلى وقت الصلاة، وإذا ثبت ما ذكرنا، ثبت أن أعداد الأحداث لا يعتبر بها، وأن الواجب على الإنسان أن يتوضأ متى أراد الصلاة وهو محدث، وأن يغتسل متى أرادها وهو جنب، على أن المسألة لا خلاف فيها، فإطالة الكلام فيها لا طائل فيه.
مسألة [ متى تطلق الجبائر ]
قال: ومن كسر فجبر، ولم يخش من إطلاق الجبائر عنتاً، لم يجزه إلاَّ إطلاقها، وتطهير ما يجب تطهيره، وإن خشي عنتاً، أجزأه ترك ذلك العضو دون مسح الجبائر والخرق. وقال عليه السلام في (المنتخب) (2): (يمسح على الجبائر).
وهذه المسألة فيها روايتان، فرواية (الأحكام) (3) هي الرواية الأولى، ورواية (المنتخب) هي الثانية، وبها أقول.
والوجه لمن ذهب إلى الرواية الأولى أن اللّه تعالى أمر بتطهير هذه الأعضاء، فإذا تعذر ذلك سقط فرضه قياساً على سائر العبادات إذا تعذرت، وأنه لا معنى للمسح على الجبائر والخرق كما أنَّه لا معنى عندنا للمسح على الخفين والجوربين والعمامة والخمار.
والوجه لمن ذهب إلى الرواية الثانية وهي رواية (المنتخب):
__________
(1) في (أ): يوجب.
(2) المنتخب ص28.
(3) انظر الأحكام 1/60.(6/16)
ما أخبرنا به محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر للحق عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال: أصيبت إحدى زندي مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فَجُبِّرت فقلت: يارسول اللّه، كيف أصنع بالوضوء؟ قال: (( امسح على الجبائر )). قال: قلت: فالجنابة؟ قال: (( كذلك فافعل )). فقد نص صلى الله عليه وآله وسلم على صحة ما اخترناه في هذا الباب.
وكان أبو العباس الحسني ـ رحمه اللّه ـ يتأول ذلك على العظام المجبورة، وهذا التأويل بعيد جداً من وجهين:
أحدهما: أنَّه لا يمكن الوصول إلى المسح عليها، إلا بحَلِّ ما عليها، وذلك يؤدي إلى الضرر العظيم، وإفساد العضو، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمره به.
والثاني: أن الجبائر إذا أطلقت حملت على ما على العضو من الخشب ونحوه، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجب أن يحمل على ما يقتضيه إطلاقه.
مسألة [ في المحروق والمجدور إذا اجتنبا ]
قال: ومن احترق أو أصابه جدري، ولم يخش من الاغتسال عنتاً، اغتسل، وإن خشي من الدلك، ولم يخش من صب الماء عنتاً(1) اقتصر على صب الماء، وإن خشي من ذلك عنتاً، اجتزئ بالتيمم. وكل ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (2).
والأصل في ذلك أن الله تعالى أمر بالغسل مع الإمكان، وقد بينا فيما مضى أن الغسل هو صب الماء مع الدلك، أو ما يقوم مقامه، فإذا أمكن جميع ذلك، وجب أن يفعل، وإذا تعذر الدلك، سقط، وبقي وجوب صب الماء، وإذا تعذر صب الماء مع الدلك، سقطا جميعاً، ووجب التيمم مثل الصلاة تجب من قيام، فإذا تعذر القيام، سقط وجوبه، وصلى من قعود، فإذا تعذر القعود، سقط وجوبه، وصلى بالإيماء.
__________
(1) في (أ) وهامش (ب): اقتصر على ما لم يخش دون ما يخشى، وإن كان جدرية قد تفقأ أو تنفط جسده من الاحتراق وخشي من صب الماء اجتزئ بالتيمم.
(2) انظر الأحكام 1/59.(6/17)
ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَإنْ كُنْتُم مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله : {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[المائدة:6]، فجعل للمريض العدول عن الماء إلى التيمم، وهذا عام في كل مرض، فلما أجمع الجميع على أن المريض الذي لا يستضر بالماء لا يجوز له العدول عنه، خص ذلك، وبقي الباقي على عمومه، وهذا يصحح ما نذهب إليه من أن من خاف الزيادة في العلة، جاز له العدول عن الماء إلى التيمم، وهو الذي نص عليه القاسم عليه السلام فيما رواه عنه يحيى في (الأحكام) (من خشي التلف أو العنت من مجدور أو مريض، تيمم، وكان ذلك مجزياً) (1).
وأخبرنا محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، أخبرنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، أن رجلاً أتاه، فقال: إن ابن أخي به جدري، وقد أصابته جنابة، فكيف أصنع؟ فقال: "يمموه".
وهذا مقيس على من خاف التلف من استعمال الماء؛ بعلة أنَّه يخاف زيادة العلة من استعمال الماء، فكل من كان كذلك، جاز له العدول عن الماء إلى التيمم، والمخالف لنا يقيسه على من لا يخاف من الأعِلاَّء ضرراً من استعمال الماء كالمحموم، وما جرى مجراه، بعلة أنَّه لا يخاف التلف من استعمال الماء، وعلتنا مرجحة بالنقل؛ ولأنها مستندة إلى قول اللّه تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِيْ الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78].
مسألة [ في غسل الأقطع ]
قال القاسم عليه السلام، وَالأَقطع يغسل ما بقي إلى الحد المحدود. وهذا منصوص عليه في (مسائل النيروسي).
والدليل على ذلك أن اللّه تعالى أوجب على المتطهر غسل اليدين إلى المرفقين بقوله: {وَأَيْدِيَكُم إِلَى الْمَرَافِقِ}[المائدة:6]، فكل جزء من أجزاء اليد إلى المرفق يجب غسله، فإذا سقط فرض بعضها بذهابه بالقطع أو غيره، بقي وجوب الغسل لسائره كما كان، وهذا أوضح مما يُحتاج فيه إلى الإطالة.
__________
(1) الأحكام 1/60.(6/18)