وذكر يحيى بن الحسين عليه السلام، أنَّه روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر أم سلمة بنقض شعرها عند اغتسالها من الجنابة، وأنها كانت كثيرة الشعر(1).
مسألة [ في حكم غسل الجمعة والعيدين والإحرام ]
قال: وغسل الجمعة، والعيدين، والإحرام سنة.
قال: وقال القاسم عليه السلام: ومن اغتسل يوم الجمعة لصلاة الفجر، اكتفى به، وإن أحدث بعد ذلك.
ويستحب الغسل لمن غسل الميت، ولمن أراد دخول الحرم، وكل ذلك منصوص عليه في (الأحكام) (2) في مواضعه.
أما غسل الجمعة، فقد ورد فيه: ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا محمد بن علي بن محمد بن مُحَرِّز، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، أخبرنا أُبي، عن إسحاق(3)، عن الزهري، عن طاووس، قال: قلت لابن عباس ذكروا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رؤوسكم، وإن لم تكونوا جنباً، وأصيبوا من الطيب ))(4). فقال ابن عباس: أما الغسل فنعم، وأما الطيب فلا أعلمه.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هشام، أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن من الحق على المسلم أن يغتسل يوم الجمعة، وأن يمس من طيب، إن كان عند أهله، فإن لم يكن عندهم طيب، فإن الماء طيب ))(5).
فذهب(6) قوم إلى أن الغسل يوم الجمعة واجب، واستدلوا:
__________
(1) انظر الأحكام !62.
(2) انظر الأحكام 1/151، 278.
(3) في (ج): أخبرنا ابن إسحاق، عن الزهري.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/115 وفيه: قال حدثنا أُبي عن ابن إسحاق عن الزهري.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/116، ومنه حدثنا هشيم، بدلاً عن هشام، وبلفظ: على كل مسلم.
(6) في هامش (ب): وذهب.(6/9)
بما أخبرنا به أبو الحسين عبدالله بن سعيد البروجردي، حدثنا سفيان بن هارون القاضي، حدثنا عبد اللّه بن أيوب، حدثنا سفيان، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، يبلغ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ))(1).
قيل له: لا يمتنع أن يكون ظاهر ما تعلقتم به يوجب أن الغسل فيه واجب، لكن قد وردت أخبار دلت على أنَّه مسنون، وأنه ليس بواجب، منها:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي داود، حدثنا خالد الحمصي، حدثنا محمد بن حرب، حدثني الضحاك بن حمزة، عن الحجاج بن أرطأه، عن إبراهيم بن المهاجر، عن الحسن بن أبي الحسن(2)، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، وقد أدى الفريضة، ومن اغتسل، فالغسل أفضل ))(3).
فقد صرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الوضوء هو الفرض، وأن الغسل فضيلة.
وروى الحديث المشهور، عن ابن عباس أنَّه قال: من اغتسل يوم الجمعة، فحسن جميل، ومن لم يغتسل، فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف كان ذلك، كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم، وكان المسجد ضيقاً متقارب السقف، فخرج إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في يوم حار، وقد عرق الناس، فتأذى الناس بعضهم بروائح بعض، وتأذى بها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (( أيها الناس، إذا كان هذا، فاغتسلوا، ولْيُمِسُّ أحدكم أفضل ما يجد من طيبه ودهنه ))(4).
وروي نحو هذا عن عائشة، فبين السبب فيه وأنه لإماطة تلك الروائح على سبيل التنظيف.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/116 عن يونس، به.
(2) في (أ) و(ب): الحسين بن أبي الحسين.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/119.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/116، 117 بلفظ مقارب.(6/10)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا يعقوب بن إسحاق، حدثنا شعبة، أخبرني عمرو بن مرة، عن زاذان، قال: سألت عليّاً ـ عليه السلام ـ عن الغسل فقال: اغتسل إذا شئت. قال: إنما أسألك عن الغسل الذي هو الغسل؟ قال: يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الفطر، ويوم النحر(1).
ومن المعلوم أنَّه لم يخبر عن الغسل المباح؛ لأن السائل لم يقنع بقوله ـ عليه السلام ـ: اغتسل إذا شئت، وقال بعد ذلك: إنما أسأل عن الغسل الذي هو الغسل، وكذلك لم يخبر عن الغسل المفروض؛ إذ ذكر غسل العيدين ويوم عرفة، ولم يذكر الغسل من الجنابة، فثبت أنَّه أراد الغسل المسنون، وفي(2) ذلك صحة ما ذهبنا إليه من أن غسل الجمعة والعيدين سنة.
وأما غسل الإحرام، فالذي يدل على أنَّه مسنون:
ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر ـ في حديث طويل يصف فيه حجة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول: أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء ابنة عميس محمد بن أبي بكر، فأرْسلَت إلى رسول اللّه كيف أصنع؟ فقال: اغتسلي واستذفري بثوب وأحرمي.
فلما أمرها بالغسل مع النفاس، عُلم أنَّه مسنون؛ إذ لا غرض فيه غير إقامة السنة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لعائشة ـ حين حاضت، وكانت مُهِلَّة بعمرةٍ ـ: (( انقضي رأسك، وامتشطي، واغتسلي وأهلي بالحج )). فدل ذلك على ما قلناه.
وأما الوجه فيما قاله القاسم عليه السلام من أن من اغتسل يوم الجمعة اكتفى، وإن أحدث بعد ذلك هو أن الغرض المقصود به من إماطة الروائح يتم، وإن توسط الحدث بينه وبين الصلاة، ولأنَّ أحداً لم يقل بخلافه.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/119 إلا أنه قال: قلت إنما...إلخ، وقال: ويوم الأضحى بدلاً عن النحر.
(2) في (ب) و(ج): ففي.(6/11)
وأما الوجه في استحباب الغسل لمن غسل الميت، فلأنه لا يكاد يسلم من أن ينتضح عليه من غسالة الميت ما ينجسه، سيَمَا وقد بينا فيما تقدم أن الماء ينجس بوروده على النجاسة، كما ينجس بورود النجاسة عليه، ومن أهل البيت من يذهب إلى أن ذلك واجب، وذلك لا معنى له؛ إذ لم يقم عليه دليل من الشرع؛ ولأن الغسل لو وجب، لكان يجب لأنَّه لمس الميت إذا صب عليه الماء، وصب الماء لا يزيده شراً، وإذا ثبت بالإجماع أن من مس الميتة من سائر الحيوان، فلا يجب عليه الغسل، فكذلك من مس الميت من بني آدم؛ إذ(1) لا يجوز أن يكون ابن آدم أسوأ حالاً من سائر الحيوانات، سيما ما ثبتت(2) نجاستها كالكلب والخنزير.
وأما الوجه في استحباب الغسل لمن أراد دخول الحرم، فهو أن الإنسان يحصل في ذلك المكان الشريف، فاستحب له الغسل كما استحب لمن أراد حضور الجامع يوم الجمعة، وحضور المصلى في العيدين.
وليس لأحد أن يقول: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمَّا لم يأمر عائشة بتكرير الغسل لدخول الحرم حين أمرها أن تحرم من التنعيم، ثبت أنَّه لا وجه لاستحبابه، وذلك أن الغسل الواحد يقوم مقام الغسلات الكثيرة في الفرض والسنن، فكيف في الاستحباب؟! فإذا(3) كان ذلك كذلك، لم يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرها بذلك؛ لقرب التنعيم من الحرم (إذ التنعيم مما يلي الحرم)(4)؛ فكأن الغسل الواحد ناب عن الإحرام، وعن دخول الحرم.
مسألة [ فيمن شك في الترتيب أو في تطهير عضو قبل الصلاة ]
قال: ومن توضأ ثم شك في تطهير عضو من أعضائه؛ طهره، ثم أعاد ما بعده، فإن شك في الترتيب، عاد إلى الموضع الذي شك فيه، ثم أعاد ما بعده. وقد نص على ذلك (ع) في (الأحكام) (5).
__________
(1) حذفت (إذ) من (ب).
(2) في (ب): ثبت.
(3) في (ب) و(ج): وإذا.
(4) ما بين القوسين زيادة في (ج).
(5) انظر الأحكام 1/54 ـ 55.(6/12)
والوجه فيه أنَّه متيقن للحدث فيجب أن يتيقن الطهارة، لا خلاف في ذلك، فإذا ثبت ما ذكرناه صح ما ذهبنا إليه؛ لأنَّه إذا شك في تطهير عضو من أعضائه، لا يكون متيقناً استكمال الطهارة، وقولنا: ثم أعاد ما بعده، مبني على ما ذهبنا إليه من القول بوجوب الترتيب؛ لأنا إذا قلنا بوجوبه، قلنا: أن غسل العضو الثاني قبل غسل العضو الأول لا معنى له، وغسله معه لا يقتضي الترتيب، فكأنه شك في ذلك العضو وفيما بعده، فلذلك قلنا: إنَّه يعيد ما بعده.
والوجه فيما قلناه أن من شك في الترتيب عاد إلى الموضع الذي شك فيه، ثم أعاد ما بعده، هو الوجه الذي ذكرنا في المسألة الأولى، وهو ـ أيضاً ـ مبني على القول بوجوب الترتيب، وقد مضى الكلام فيه مستقصى فلا طائل في إعادته.
مسألة [ فيمن شك في الترتيب بعد الصلاة ]
قال: فإن(1) كان صلى بذلك الوضوء، ثم عرض له الشك في ترتيبه، لم يعد تلك الصلاة، وإن أيقن التنكيس، أعاد الوضوء والصلاة.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام)(2).
والوجه فيه أن الشك في الترتيب إذا عرض بعد ما صلى، فإن تلك الصلاة قد أداها على ما لزمه، ولم يعرض له بفسادها علم، ولا غالب الظن، فيجب أن يكون حكمها حكم سائر الصلوات التي تؤدى في أنَّه لا يجب قضاؤها، فإذا أيقن التنكيس، أو غلب ذلك في ظنه، فعليه إعادة الصلاة، على ما نص عليه؛ لأنَّه قد علم أن صلاته وقعت على وجه لا يصح، أو غلب في ظنه.
فإن قيل: فلم ألحقتم غالب الظن بالعلم في هذا الموضع؟
قيل له: لأن التحري قد ثبت أن له حكماً في الطهارات والصلاة، والتحري يحصل عنده غالب الظن دون العلم، فثبت أن غالب الظن له مدخل في إفساد الطهارات والصلوات، وصحتها.
__________
(1) في (ب) و (ج): وإن.
(2) انظر الأحكام 1/55.(6/13)