ولِمَا روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أن رجلاً أتاه فقال: إني كنت أعزل عن جاريتي، وقد أتت بولد فقال عليه السلام، هل كنت تعاودها قبل أن تبول؟ قال: نعم. قال: فالولد ولدك.
فإذا اغتسل، ثم بال، فلا بد من أن يخرج مع البول ما بقي من أجزائه، وذلك يوجب الإعادة للغسل، وإذا وجب إعادة الغسل، فلا قول إلاَّ قول من لا يعتد بالغسل الأول.
ويقاس ذلك على المرأة التي تغتسل من الحيض، ثم يخرج منها شيء من دم الحيض أنَّه يلزمها إعادة الغسل، ولا تعتد بالغسل الأول، فكذلك الرجل إذا اغتسل ولم يبل، والمعنى بقاء موجب الغسل في الفرج، فكل من بقي في فرجه ما يوجب الغسل، لم يعتد بالغسل الأول.
مسألة [ في وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل ]
ومن فرض الاغتسال: المضمضة والاستنشاق.
وهو منصوص عليه في (المنتخب)(1)، وقد دللنا على وجوبهما في الوضوء، فإذا(2) ثبت وجوبهما في الوضوء، ثبت وجوبهما في الاغتسال؛ إذ كل من قال بوجوبهما في الوضوء، قال بوجوبهما في الاغتسال.
وما استدللنا به في مسألة الوضوء، يمكن أن يستدل به هاهنا، ومما يخص هذا الموضع قول اللّه تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}[المائدة:6]، فاقتضى ذلك أن يُطَهِّر جميع جسده، على أن الآية إما أن تكون عامه، أو مجملة، فإن كانت عامة، اقتضت أن يطهر جميع البدن، وإن كانت مجملة، وجب أن يرجع إلى البيان.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن أبي زائدة، حدثنا عطاء بن السائب، حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، حدثتني عائشة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة، تمضمض واستنشق )).
__________
(1) انظر المنتخب ص25.
(2) في (ب) و(ج): وإذا.(6/4)
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن سالم، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، قالت: وضعت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم غسلاً، فاغتسل من الجنابة، فأكفأ الإناء بشماله على يمينه، فغسل كفيه، ثم أفاض الماء على فرجه، فغسله، ثم دلك يده بالأرض، ثم تمضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض الماء على سائر جسده، ثم تنحى عن الموضع، فغسل رجليه.
وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجب أن يحمل على الوجوب، إذا كان بياناً لمجمل.
ويدل على ذلك: ما روى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أسود بن عامر، حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( من ترك موضع شعرة من جسده في جنابة لم يغسلها، فُعِل به كذا وكذا من النار )). قال علي عليه السلام: (( فمن ثَمَّ عاديت شعري ))، فكان يجز شعره.
وروى الحارث بن وجيه، عن مالك بن دينار، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( تحت كل شعرة جنابة، فبلوا الشعر، وأنقوا البشر ))، فكل ذلك يقتضي وجوب المضمضة والاستنشاق في الاغتسال.
ويدل على ذلك من طريق القياس أنَّه عضو مقدور على غسله من غير تعذر ولا مشقة، فوجب أن يكون حكمه حكم سائر الأعضاء في وجوب غسله من الجنابة.
ويمكن ـ أيضاً ـ أن يقال بأنه عضو يلحقه حكم النجس، فيجب أن يلحقه حكم الجنابة قياساً على سائر الأعضاء في وجوب غسله من الجنابة.
فإن استدلوا لإسقاط وجوبها بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (( أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات، فإذا أنا قد طهرت )).(6/5)
قيل له: يجمع بين هذا وبين ما رويناه في وجوب المضمضة والاستنشاق، ودللنا عليه من طريق القياس، فيكون التقدير كأنه قال: أما أنا فأتمضمض واستنشق، وأحثي على رأسي ثلاث حثيات، فأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( فإذا وجدتَ الماء فأمسسه جلدك ))، فليس يمكنهم التعلق به، بل هو دليلنا عليهم؛ لأن الجلد يكون في الفم والمنخرين.
مسألة [ في وجوب الدلك ]
قال: ومِنْ فَرْض ذلك دلك جميع البشر، وإيصال الماء إلى أصول الشعر. وذلك منصوص عليه في (المنتخب)(1).
والوجه فيه: ما روي عنه عليه السلام: (( تحت كل شعرة جنابة، فبلوا الشعر، وأنقوا البشر )).
وما روي: (( من ترك موضع شعرة من جسده في جنابة لم يغسلها، فُعِل به كذا وكذا من النار )).
ولأن الجنب أُخذ عليه غسل جسده، ولا يكون منقياً للبشر، ولا غاسلاً له بإمرار الماء عليه حتى يكون معه دَلْكٌ، أو ما يقوم مقام الدلك من قوة جُرِيِّ الماء عليه، أو قوة إنغماسه فيه ـ وأيضاً ـ إزالة النجس لا بد فيه مما ذكرنا، فكذلك إزالة الحدث؛ والعلة أنَّه إزالة ما يمنع من أداء الصلاة بالماء، وقد أشار القاسم عليه السلام إلى هذه العلة في (كتاب الطهارة)، وأكد ذلك بأن قال: (( إن التعبد بإزالة الحدث غسلاً، كالتعبد بإزالة النجس، وأوكد منه، فإذا لم يجز في إزالة النجس إلاَّ ما ذكرناه، فكذلك في إزالة الحدث.
مسألة [ في حكم الوضوء قبل الغسل وبعده ]
__________
(1) انظر المنتخب ص24.(6/6)
قال: والوضوء قبل الغسل نفلٌ، وبعده على من أراد الصلاة فرضٌ. وقد نص على وجوب الوضوء بعد الغسل في (الأحكام)(1)، وقال في (المنتخب)(2): (وذلك أحب إلينا)، فخفف الأمر فيه، ونص في (المنتخب) على أَنَّهُ لا يجب قبل الغسل، وأشار إِلِيْهِ في (الأحكام)(3)، وكان أبو العباس الحسني رحمه اللّه يقول: إن الصحيح على مذهبه عليه السلام أن الوضوء مستحب قبل الغسل، وبعده على من أراد الصلاة فرض على ما ذكرنا.
ويدل على أنَّه لا يجب قبل الغسل، الحديث الذي روي عن ميمونة أنها قالت: اغتسل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فغسل(4) وجهه وذارعيه، ثم أفاض الماء على رأسه، ثم أفاض على سائر جسده، ثم تنحى، فغسل رجليه.
فلو كان الوضوء قبل الغسل فرضاً، لم يكن صلى الله عليه وآله وسلم ليدع استتمامه بترك غسل الرجلين إلى بعد الغسل، ففي ذلك دليل على أنَّه ليس بفرض، ولا أحفظ خلافاً في أنَّه مستحب.
والذي يدل على أنَّه فرض بعد الغسل ما: أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا عيسى بن محمد العلوي، حدثنا الحضرمي، حدثنا عوف(5) بن سلام، عن قيس، عن عطاء، عن زاذان، عن علي عليه السلام، قال: (( من اغتسل من جنابة، ثم حضرته(6) الصلاة، فليتوضأ )).
فقد أمر أمير المؤمنين عليه السلام بالوضوء بعد الغسل، والأمر يقتضي الوجوب، ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنَّه خالفه، على أنا قد ذكرنا في غير موضع أن مذهبنا ـ هو ـ ألا نخالفه عليه السلام.
وأخبرنا أبو العباس الحسني، أخبرنا عيسى بن محمد، حدثنا محمد بن عبد اللّه الحضرمي، حدثنا يحيى بن الحماني، حدثنا شريك، عن عطاء، وزاذان، وميسرة، أن علياً عليه السلام كان يتوضأ بعد الغسل.
__________
(1) انظر الأحكام 1/57.
(2) انظر المنتخب ص24، إلا أنه قال: وهذا.
(3) انظر الأحكام 1/57، 58.
(4) في (ج): اغتسل (ص) من الجنابة، فتمضمض، واستنشق، وغسل.
(5) في (ج) وهامش (أ) و(ب): عون.
(6) في (ب) و(ج): حضرت.(6/7)
وكان أبو العباس الحسني رضي الله عنه يستدل على ذلك بأن يقول: قد ثبت وجوب الترتيب في الوضوء، وأنه لا يجب في الاغتسال، فلو جوزنا الاقتصار على الغسل دون الوضوء، كنا قد أسقطنا الترتيب مع قيام الدليل على أنَّه مأخوذ على المتطهر، وكنا قد جعلنا مالا ترتيب فيه نائباً عما فيه الترتيب بغير دلالة، وكان يقول: إن قيل لنا فما تقولون لو اغتسل من الجنابة مرتباً؟
قيل لهم: ذلك الترتيب غير واجب بالإجماع، وما ليس بواجب لا ينوب عن الواجب.
وبنحو هذا يسقط سئوال من سأل، فيقول: إذا أجزأ غسل واحد عن الحيض والجنابة، والوضوء الواحد عن الأحداث الكثيرة، فلِمَ لا يجزي الغسل الواحد من الجنابة والحدث؟ لأنَّه كان يعتمد أن الترتيب مشروط في أحدهما، غير مشروط في الآخر.
فإن قيل: روى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة.
قيل له: لسنا نقول أن وقوع الوضوء بعد الاغتسال شرط في الاغتسال، فيحجنا ما روي، وإنما نقول: إن من أراد الصلاة بعد الاغتسال وجب عليه الوضوء، وكذا لفظ الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام، وإذا كان هذا هكذا، لم يكن يعترض ذلك على مذهبنا؛ إذ ليس فيه أنَّه كان صلى الله عليه وآله وسلم يغتسل من الجنابة، ولا يتوضأ بعده، ويقوم إلى الصلاة.
مسألة [ في نقض شعر المرأة ]
قال: وعلى المرأة أن تنقض شعرها عند اغتسالها من الحيض دون الجنابة. وقد نص على ذلك في (الأحكام) (1)، والأقرب أن ذلك طريقه الاستحباب، والوجه في استحباب ذلك للتي تغتسل من الحيض بُعْدُ عهدها بالاغتسال، وخشية أن يكون في شعرها شعر قد فارق الأصل؛ ولأن الحيض أبداً أغلظ حكماً من الجنابة.
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها في الحيض: (( انقضي شعرك، واغتسلي )).
__________
(1) انظر الأحكام 1/62.(6/8)