والجواب الثاني: أن الذي ذكره جرير حكاية فعل، وليس في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح على الخفين وهو محدث، ثم صلى، فليس لهم فيه حجة.
ويدل على ذلك أيضاً أنَّه قد ثبت عن أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس وعائشة وأبي هريرة، (1)وغيرهم، إنكار المسح على الخفين.
روى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا هشيم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، أنها قالت/67/: لأن أحزهما بالسكاكين، أحب إليَّ من أن أمسح عليهما.
وروى ابن أبي شيبة، عن يحيى بن بكير، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بكر بن حفص، قال: سمعت عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: لأن أحزهما أو أحز أصابعي بالسكين، أحب إليَّ من أن أمسح عليهما.
وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يونس بن محمد، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا إسماعيل بن سميع، حدثنا أبو رزين، قال: قال لي أبو هريرة: ما أبالي على ظهر خفي مسحت، أو على ظهر حمار.
فإذا ثبت ذلك عنهم ـ وقد كان المسح على الخفين ثبت واستقر ـ فلا بد من أن يكونوا قالوا ما قالوا لعلمهم بأن المسح على الخفين قد نسخ؛ إذ لا مجال للرأي مع تلك الأخبار، فصح ما ذهبنا إليه.
فإن قيل، تقولون: إن علياً أنكره، وقد روي عن شريح بن هاني، قال: أتيت علياً عليه السلام فسألته عن المسح على الخفين؟ فقال: كنا نؤمر إذا كنا سَفْراً، أن نمسح ثلاثة أيام ولياليها، وإذا كنا مقيمين، فيوماً وليلة.
قيل له: إنَّه عليه السلام عَرَّف حكمه كيف كان قبل أن ينسخ، وهذا لا يدل على أنَّه لم يكن يرى أنَّه قد نسخ، ألا ترى أن من ذكر حكم صوم يوم عاشوراء حين كان واجباً، لا يكون دل بذلك على أنَّه لا يقول بنسخه.
فإن قيل: روي عنه عليه السلام أنَّه قال: لو كان الدين بالرأي، لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، لكني رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على ظاهره.
__________
(1) وعمار بن ياسر في (ج).(5/29)
قيل له: الجواب عن هذا كالجواب عن السؤال الأول، وهو أنَّه أخبر عن حالته الأولى، وليس فيه دليل على أنَّه لم يكن يرى أنَّه قد نسخ.
وقياس الرجلين على سائر الأعضاء الظاهرة؛ ممكن بعلة أنها من أعضاء الطهارة، فيجب أن يكون المسح على ما يواريهما غير مجز عن تطهيرهما، وهذه الطريقة واضحة صحيحة، غير أنا حققنا الكلام فيه؛ لأن المسألة طريقها الأخبار، دون النظر والمقاييس.(5/30)
[باب القول في الغسل]
مسألة [ في موجبات الغسل ]
قال: ويجب الاغتسال على من أنزل الماء من الرجال والنساء، في اليقظة والمنام، ومن التقاء الختانين، وعلى النساء من الحيض والنفاس.
وهذا كله قد نص عليه في (الأحكام)(1) وغيره، وليس في هذه الجملة خلاف، إلاَّ ما يحكى عن الصدر الأول أنهم اختلفوا في التقاء الختانين إذا لم يكن معه إنزال، وحُكي مثل ذلك عن صاحب الظاهر والقاسم بن إبراهيم عليه السلام ربما صحح(2) القول فيه.
والذي يدل على أنَّ الاغتسال منه واجب:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا فهد، حدثنا نعيم، حدثنا سفيان، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، قالت: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا قعد بين شعبها الأربع، ثم ألزق الختان بالختان، فقد وجب الغسل ))(3).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثنا عمي، حدثنا ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن حبان(4) بن واسع، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا جاوز الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل )).
وليس لأحد أن يستدل لخلاف ما نذهب إليه في هذا الباب بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( الماء من الماء ))(5)، فقد روي ما يوجب نسخه.
__________
(1) انظر الأحكام 1/58، 59، 72، 75.
(2) في (ب) و(ج): ضجع.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/56.
(4) في (ج): حيان.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/56.(6/1)
أخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثنا عمي أحمد بن عمر بن الحارث، قال: قال ابن شهاب: حدثني بعض من ارتضى، عن سهل بن سعد الساعدي، أن أبيُّ بن كعب الأنصاري أخبره أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم جعل الماء من الماء رخصةً في أول الإسلام، ثم نهى عن ذلك، وأمر بالغسل ))(1).
وقد صح القول بإيجاب الغسل من ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام وغيره من الصحابة، وروي أن عمر توعد من ترك الاغتسال منه، فقال: لإن أُخبرت بأحد يفعله، ثم لا يغتسل؛ لأنَّه كنه عقوبة، وذلك ظاهر بمشهد من المهاجرين والأنصار، ولم ينكر عليه قوله منكر، ومثل هذا عندنا يكون إجماعاً من الصحابة.
فإن قيل: فكيف يسوغ أن تدَّعوا أنَّ الماء من الماء منسوخ، وقد بقي حكمه؟
قيل له: لم يبقَ جميع ما اقتضاه اللفظ، بل قد ذهب بعضه؛ وذلك أن الماء الأول للجنس؛ لأن الألف واللام إذا لم يدلا على المعهود، دلا على الجنس، والماء الثاني هو المعهود ـ وهو المني ـ، فكأنه قال: جميع الماء من المني، وتحصيله: لا ماء، إلاَّ من المني، وإذا ثبت وجوب استعمال الماء من الإكسال، كان بعض الماء لا من الماء، فعلى هذا يكون نسخ بعض حكمه.
فإن قيل: هذا الذي أشرتم إليه هو التخصيص دون النسخ.
قيل له: التخصيص إذا ورد بعد استقرار العموم واستقرار حكمه يكون نسخاً، وإنما لا يكون نسخاً إذا لم يتأخر التخصيص عنه، ألا ترى أنَّه إذا تأخر فلا بد من أن يرتفع بعض الأحكام الثابتة بالنص، الذي هو العموم بعد استقراره، وهذا هو سبيل النسخ وطريقه.
مسالة [ في البول قبل الغسل ]
قال: ولا يجزي الجنب(2) إلاَّ أن يبول قبل الغسل(3).
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/57، إلا أنه قال: حدثنا عمر، قال: أخبرني عمرو بن الحارث.
(2) في (ب) و(ج): إذا أمنى.
(3) في (ب) و(ج): الاغتسال.(6/2)
وقد نص على ذلك في (الأحكام) و(المنتخب)(1).
والدليل على ذلك: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا أبو زيد العلوي، وأخبرنا محمد بن عثمان النقاش، قالا: حدثنا الناصر للحق عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، عن حسين بن نصر بن مزاحم، عن خالد بن عيسى العكلي، عن حصين بن مخارق، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا جامع الرجل، فلا يغتسل حتى يبول، وإلا تردد بقية المني، فكان منه داء لا دواء له )).
فنهى عن الغسل قبل أن يبول، وعندنا أن النهي يدل على فساد المنهي عنه، وأنه لا يقع موقع الصحيح، وإذا كان ذلك كذلك، فالمغتسل قبل البول كأنه لم يغتسل.
فإن قيل: إنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد بين الغرض بالنهي عنه بقوله: (( وإلا تردد بقية المني، فكان منه داء لا دواء له ))، فيجب أن يكون النهي لذلك، لا للتحريم.
قيل له: إن النهي ظاهر للتحريم، وتنبيهه على أن فيه ضرراً يتعجل، لا يسقط حكمه؛ لأنَّه لا يمتنع أن يحرم صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يبين أن فيه وجوهاً من المضار، ومثل هذا قد ورد في القرآن، قال اللّه تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ..} الآية[المائدة:90]، ثُمَّ قال: {إِنَّمَا يُرِيْدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِيْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}[المائدة:91]، ولم يكن لأحد أن يقول: إن الضرر الذي ذكره اللّه تعالى فيه، يدل على أن النهي ليس يقتضي التحريم، بل يكون النهي نهياً على حياله، وما ذكره من تعجل الضرر منه باقٍ على حياله، ويدل على ذلك ـ أيضاً ـ أنَّه قد ثبت وجوب الاغتسال لخروج المني، وإذا جامع الرجل، ولم يبل، فلا بد من أن يبقى في الإحليل بقية من المني، للخبر الذي ذكرناه، وللمشاهدة.
__________
(1) انظر الأحكام 1/58. وانظر المنتخب ص24.(6/3)