وحكي عن قوم أنهم قالوا بوجوب الوضوء لكل صلاة على الحاضر، وذلك لا معنى له؛ لما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني أسامة بن زيد، وابن جريج، وابن سمعان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد لله، قال: ذهب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى امرأة من الأنصار ومعه أصحابه، فقدمت لهم شاة مصلية، فأكل وأكلنا، ثم حانت الظهر، فتوضأ، ثم صلى، ثم رجع إلى فضل طعامه، فأكل، ثم حانت العصر فصلى، ولم يتوضأ ))(1).
مسألة [ في المتوضئ يحلق أو يقلم ]
قال: ومن توضأ، ثم أخذ من شعره، أو قلم أظفاره، فعليه أن يمر الماء على أثره.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب)(2).
والوجه في ذلك أن أعضاء الطهارة يجب أن يكون كل موضع منها مغسولاً أو ممسوحاً، فإذا أخذ شعره، أو قلم أظافيره، بقي موضع القص غير مغسول، ولا ممسوح، فيكون بمنزلة أن يبقي من جملة الأعضاء موضع لم يمسه الماء، فكما يجب إمساسه الماء، كذلك(3) موضع القص يجب أن يمر الماء عليه.
مسألة [ في المسح على الخمار ]
قال: ولا يجزي مسح العمامة والخمار عن مسح الرأس.
وقد نص عليه في (الأحكام) (4)، وهو مما لا خلاف فيه، وظاهر قول اللّه تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} يقضي بصحة ما ذكرناه؛ لأن الماسح على العمامة والخمار، لا يكون ماسحاً على الرأس على التحقيق.
مسألة [ في المسح على الخفين ]
قال: ولا يجزي المسح على الخفين، والجوربين والرجلين عن غسلهما.
وهذا أيضاً منصوص عليه في (الأحكام)(5)، وقد مضى الكلام في وجوب غسل الرجلين، وأن مسحهما لا يجزي عن غسلهما.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/42.
(2) انظر المنتخب ص26.
(3) في (ب) و(ج): فكذلك.
(4) انظر الأحكام 1/78، 79.
(5) انظر الأحكام 1/78، 79.(5/24)
فأما المسح على الخفين فالذي يدل على أنَّه لا يجزي، قول اللّه تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُم وَأَرْجُلَكُم إِلَى الْكَعْبَيْن} وسواء كانت القراءة بالنصب، أو الخفض، أو كانت الرجل ممسوحة، أو مغسولة، فالحكم لا محالة راجع إلى الرجلين دون الخفين، والماسح للخفين لا يكون غاسلاً للرجلين، ولا ماسحاً لهما، فبان أن ظاهر الآية يقتضي ما نذهب إليه، على أن ذلك إجماع أهل البيت عليهم السلام، لا يختلفون فيه، وما أجمع عليه أهل البيت عليهم السلام، فيجب أن يكون صحيحاً عندنا، فثبت بذلك أيضاً أنَّه لا مسح على الخفين.
فإن استدلوا بالأخبار التي رويت في ذلك منها: ما روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مسح على الخفين.
ومنها ما روي عنه عليه السلام، أنَّه قال: (( امسح ما بدا لك )).
وما روي عنه عليه السلام أنَّه رخص فيه للمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وللمقيم يوماً وليلة/65/.
قيل لهم: هذه الأخبار عندنا منسوخة، نسخها قول اللّه تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُم إِلَى الْكَعْبَين}، والذي يدل على ذلك أن الصحابة أجمعوا على مراعاة التقدم والتأخر في المسح والآية، ولا وجه لمراعاة التقدم والتأخر بين الآيتين أو الخبرين، أو الآية والخبر إلاَّ لعلمهم بأن أحدهما يجب أن يكون ناسخاً، والآخر منسوخاً، فإذا ثبت ذلك، ولم يثبت تأخر المسح على الآية، وثبت تقدمه عليها، ثبت أن الآية ناسخة له.
فإن قيل: ولم ادعيتم إجماع الصحابة على مراعاة التقدم والتأخر فيها(1).
__________
(1) سقطت (فيها) من (ب) و(ج).(5/25)
قيل لهم: لِما أخبرنا به أبو الحسين بن إسماعيل، أخبرنا الناصر، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: لمَّا كان في ولاية عمر، جاء سعد بن أبي وقاص، فقال: يا أمير المؤمنين، ما لقيتُ من عمار؟ قال: وما ذاك؟ قال: حيث خرجتُ ـ وأنا أريدك ـ ومعي الناس، فأمرتُ منادياً فنادى بالصلاة، ثم دعوت بطهور، فتطهرت، ومسحت على خفي، وتقدمت أصلي، فاعتزلني عمار، فلا هو اقتدى بي، ولا هو تركني، فجعل ينادي من خلفي: يا سعد، أصلاة من غير وضوء؟ فقال عمر: يا عمار، أخرج مما جئت به. فقال: نعم. كان المسح قبل المائدة. فقال عمر: يا أبا الحسن، ما تقول؟ قال أقول: إن المسح كان من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في بيت عائشة، و(المائدة) أنزلت في بيتها، فأرسل عمر إلى عائشة، فقالت: كان المسح قبل (المائدة)، وقل لعمر: والله لأن تقطع قدماي بعقبيهما، أحب إليَّ من أن أمسح عليهما. قال عمر: لا نأخذ بقول امرأة. ثم قال: أنشد اللّه امرءً شهد المسح من رسول اللّه لمَا قام، فقام ثمانية عشر رجلاً كلهم رأى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يمسح وعليه جبة شامية ضيقة اليدين، فأخرج يديه من تحتها، ثم مسح على خفيه. فقال عمر: ما ترى يا أبا الحسن، فقال: سلهم قبل المائدة أو بعدها، فسألهم، فقالوا: ما ندري. فقال علي عليه السلام: أنشد اللّه أمرءً مسلماً علم أن المسح كان قبل (المائدة) لما قام، فقام اثنان وعشرون رجلاً فتفرق القوم وهؤلاء قيام يقولون لا نترك ما رأينا، وهؤلاء يقولون: لا نترك ما رأينا.(5/26)
وأخبرنا أبو العباس الحسني رحمه الله، أخبرنا علي بن الحسن بن شيبة المروزي، حدثنا الفضل بن العباس بن موسى أبو نعيم، حدثنا عمر بن حصين، حدثنا أبو عوانة، عن عطاء عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: مسح رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على الخفين، فسئل الذين يزعمون لك.. أقبل (المائدة) أم بعدها؟ ما مسح رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بعد (المائدة)، ولأن أمسح على ظهر عير بالفلاة، أحب إليَّ من أن أمسح على الخفين.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، عليهما السلام، قال: قال علي عليه السلام: (( سبق الكتاب الخفين )).
وروى ابن أبي شيبة، عن علي بن مسهر، عن عثمان بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: سبق الكتاب الخفين.
فقد دلت هذه الأخبار على ما ادعيناه من إجماع الصحابة/66/ على مراعاة التقدم والتأخر فيه؛ لأن أمير المؤمنين قد راعى ذلك، وكذلك عمر، وابن عباس، وعمار، وعائشة، وكان ذلك من عمر بمشهد من سائر الصحابة، واشتهر ذلك، ولم ينكره منكر، ولم يقل أحد لا وجه لمراعاة التقدم والتأخر فيه، فوجب بذلك أن يكونوا قد أجمعوا عليه، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن المسح كان قبل المائدة بشهادة من شهد من الصحابة كأمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس وعائشة، ولم يرو عن أحد منهم أنَّه كان بعد المائدة، ثبت أن الآية ناسخة له.
فإن قيل: إن النسخ يجب أن يكون بين الشيئين إذا كان بينهما تناف، فأما ما يصح الجمع بينهما، فلا يصح القول بأن أحدهما ناسخ للآخر، ويصح الجمع يبن المسح والآية، فيقال بالمسح في حال لبس الخفين، وبحكم الآية في حال انكشاف الرجلين.(5/27)
قيل له: هذا غلط بالإجماع؛ لأنَّه لا خلاف أن صوم يوم عاشوراء نسخ بصيام شهر رمضان، وصح القول به لما دلت الدلالة عليه، وإن لم يكن بينهما شيء من التنافي على وجه من الوجوه، فكذلك القول بأن الآية ناسخة لأخبار المسح يجب أن يصح القول به؛ إذ قد دلت الدلالة عليه، على أن الجمع بين الآية وبين خبر المسح لا يمكن إلاَّ برفع بعض الحكم الذي يقتضيه ظاهر الآية، وإن كان ذلك على وجه التخصيص، وليس كذا صوم يوم عاشوراء مع صوم شهر رمضان؛ لأن أحدهما لا يعترض على الآخر بوجه من الوجوه، وإذا صح فيه النسخ، كان فيما ذكرنا أصح وأولى.
فإن قيل: فكيف يجوز أن يكون عُقل النسخ بينهما؟
قيل له: يجوز ذلك بأن يكون الصحابة قد عرفت أن الآية قد نسخت جميع ما كان قبلها من الطهارات.
فإن قيل: روي عن جرير بن عبد الله، أنَّه قال: أسلمت بعد نزول المائدة، ورأيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على الخفين.
قيل له: هذا الحديث يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الصحابة راعت فيه التقديم والتأخير، ويؤكد ذلك ما روي أن أصحاب عبد الله يعجبون بحديث جرير؛ لتأخر إسلامه.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن أبي(1) معاوية، ووكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، أنَّه قال: كان يعجبنا حديث جرير؛ لأن إسلامه كان بعد نزول المائدة، فأما قول جرير رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يمسح ففيه جوابان:
أحدهما: أنا لا نقبل قول جرير؛ لإنكار أمير المؤمنين عليه السلام له، ولإنكار ابن عباس، وعمار، وعائشة، وغيرهم من الصحابة له، وليس لأحد أن يقول: أنهم نفوا، وجرير أثبت، فيجب أن يكون قول جرير أولى، وذلك؛ لأنا نعلم أنهم لا ينفون إلاَّ ما يعلمون انتفاءه على التحقيق، فيجب أن يكون نفيهم أولى من إثبات جرير.
__________
(1) سقطت (أبي) من (أ) و(ب).(5/28)