ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا الحسن بن علي بن أبي الربيع، حدثنا علي بن هارون، حدثنا أبو كريب، حدثنا الحسين الجعفي، عن زائدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( الملامسة الجماع )).
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الشعبي، عن أصحاب علي، عن علي عليه السلام: أولا مستم النساء. قال: هو الجماع.
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: هو الجماع.
فإن قيل: فقد روى ابن أبي شيبة، أن أصحاب عبد اللّه رووا عن عبد الله، أنَّه قال: فما دون الجماع، وقد روي ذلك عن عمر وابن عمر.
قيل له: ما رويناه أولى؛ لأن ذلك قد رويناه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم/62/، ورويناه عن علي عليه السلام، ومن أصلنا أنا إذا روينا الحكم عن علي عليه السلام، فلا نتعداه إلى قول غيره من الصحابة، على أن الملامسة في اللغة هي الجماع، فلو لم يُروَ فيها شيء، وجب حملها على الجماع، فكيف وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن علي عليه السلام وغيره من الصحابة؟
فإن قيل: فإن الملامسة هي المفاعلة من ـ اللمس ـ، فلا يصح أن يدعى فيها أنها الجماع؛ لأن اللمس والمس في اللغة واحد.(5/19)
قيل له: لا يمتنع أن يكون ما ذكرت أصلاً في اللغة، إلاَّ أن الذي ادعينا في الملامسة قد صار منقولاً بالعرف عن الأصل كما أن الدابة نقلت عما كان أصلاً إلى العرف(1)، ألا ترى أنها اسم في أصل اللغة لكل ما يدب؟ ثم صار اسماً للبهيمة المخصوصة، وكذلك الغائط كان اسماً للأرض المطمئنة، ثم صار اسماً لقضاء الحاجة المخصوصة، والاسم إذا أفاد في أصل اللغة شيئاً نقله العرف عنه إلى غيره أو إلى خاص منه، ثم إذا ورد الخطاب به، وجب حمل الخطاب عليه، وإذا كان هذا هكذا، بان أن الملامسة حقيقتها هو الجماع، ويجب أن يكون حقيقة فيها(2).
فإن قيل: لو سلمنا لكم أن الحقيقة فيها ما ذكرتم، فيجب أن يكون اللمس أيضاً مراداً بها؛ لأن من مذهبكم أن لا يمتنع أن تكون اللفظة الواحدة يراد بها الحقيقة والمجاز جميعاً.
قيل له: نحن وإن جوزنا ذلك فلسنا نوجبه؛ لأنا نقول: إن اللفظة إذا كان لها مجاز وحقيقة، فيجب أن تكون الحقيقة مراداً بها، إلاَّ أن يمنع منه الدليل، فلا يجب أن يكون المجاز مراداً بها إلاَّ بدليل، وإذا كان هذا هكذا، فلا يجب أن يكون اللمس(3) مراداً بالآية.
فإن قيل: قد قُرِأَتْ الآية {أَوْ لمَسْتُمُ النِّسَاء} وقُرِأَتْ {أَوْ لامَسْتُم..}[المائدة:6] فلو ثبت أن الملامسة هي الجماع، فلا إشكال في أن اللمس هو المس، والقراءتان كالخبرين، فيجب الأخذ بمقتضاهما.
قيل له: قد أجمعت الأمة على أن المراد بالقراءتين مراد واحد؛ لأن كل من حمل الملامسة على الجماع حمل اللمس عليه، ومن حمل اللمس على المس، حمل الملامسة عليه، فإذا ثبت ذلك، وثبت أن الملامسة هي الجماع، ثبت أن اللمس أيضاً هو الجماع.
__________
(1) في (ب) و(ج): كانت في الأصل بالعرف.
(2) في (ب) و(ج): بان أن الملامسة يجب أن يكون حقيقتها هو الجماع، ويجب أن يكون حقيقة فيها.
(3) في (ب) و(ج): المس.(5/20)
فإن استدلوا لصحة مذهبهم بما روي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إني نلت من امرأة كلَّما ينال الرجل من امرأته غير الجماع، فقال له عليه السلام: (( توضأ، وصل )).
قيل له: إن هذا لا يدل على صحة مذهبكم؛ لأن في ما ينال الرجل من امرأته أن يمذي بملاعبتها، فلا يمتنع أن يكون قوله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ لذلك، على أن من مذهبنا أن الكبائر تنقض الطهارة، فلا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره بالوضوء لارتكابه الكبيرة، على أنَّه ليس في الحديث أن الرجل نال ما نال من المرأة وهو متطهر، ولا خلاف في أن المرأة إذا مست المرأة، لم تنتقض طهارتها، وكذلك إذا مس الرجل شعرها، فيجب أن لا تنتقض طهارته إذا مس المرأة، والمعنى أنَّه لم يحصل إلاَّ المسيس بغير الفرجين، وهذه المسألة طريقها الأخبار، فلذلك لم نستقصِ القياس فيها، واقتصرنا على ذكر اليسير منه.
مسألة [ في القهقهة في الصلاة ]
قال: ولا ينقضها القهقهة في الصلاة.
وقد نص في (الأحكام)(1) على أن القهقهة في الصلاة، تنقض الصلاة ولا تنقض الطهارة، فهذا هو الأصل فيها، إلاَّ أن يقع على وجه التعمد، فتنتقض الطهارة بها، وهذه المسألة قد مضى الكلام فيها.
والذي يدل على صحة ما نذهب إليه/63/ هو أن الشيء لا يثبت كونه حدثاً إلاَّ بدلالة شرعية، ولم تقم دلالة شرعية تدل على أن القهقهة في الصلاة حدث، فوجب القول بأنها لا تنقض الطهارة.
فإن استدلوا بحديث أبي العالية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي، وخلفه أصحابه، فجاء رجل أعمى، وثَمَّ بئر على رأسها خصفة، فتردى فيها، فضحك القوم، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من ضحك بأن يعيد الوضوء، ويعيد الصلاة.
__________
(1) انظر الأحكام 1/111.(5/21)
وروي عن الحسن، عن أسامة بن أبي المليح(1)، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: من قهقه في صلاته فليعد الوضوء والصلاة.
قيل له: روي عن جابر بن عبد اللّه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهم بإعادة الوضوء.
وروي بأن الضاحك في صلاته، والملتفت سواء، ولا خلاف أن الملتفت لا وضوء عليه، فيجب أن لا يكون على الضاحك أيضاً، فالأخبار إما أن تتعارض، فيسلم لنا أصل الدليل، ويحمل أيجاب الوضوء على أنَّه كان لكون الضحك معصية؛ لأن الضحك في الصلاة إذا وقع على سبيل العمد فهو معصية، ويدل على ذلك أنا وجدنا سائر الأفعال لما لم تكن حدثاً خارج الصلاة لم يكن حدثاً فيها، والأحداث كلها تشهد لهذه العلة؛ لأنها لا تختص حال الصلاة دون غيرها، بل كل ما كان منها حدثاً في الصلاة، كان حدثاً في غيرها.
فإن قيل: هذه علة تنتقض على أصولكم؛ لأن من مذهبكم أن القهقهة في الصلاة تنقض الطهارة، إذا وقعت على سبيل العمد، ولا تنقضها إذا وقعت خارج الصلاة.
قيل له: العلة صحيحة، وذلك أنا لا نراعي كونها واقعة على سبيل العمد فقط، وإنما نراعي كونها معصية، فمتى وقعت القهقهة على وجه يكون معصية، نقضت الطهارة ـ في الصلاة كانت، أم خارج الصلاة ـ وإلى هذه العلة أشار في (الأحكام) (2) حيث يقول: (ولو نقض الطهارة هذا الصوت الحقير لنقضها الصوت الكبير والكلام الدائم الكثير)، وليس لهم أن يبطلوا علتنا هذه بكونها دافعة للخبر؛ لأنا قد بينا الكلام في الخبر، وبينا فيه التعارض، وتأولناه أيضاً على الضحك الذي يكون معصية، فلا يجب أن تكون العلة دافعة للخبر.
مسألة [ في تجديد الطهارة ]
قال: ويستحب تجديد الطهارة لمن اشتغل عنها بسائر المباحات.
وهذا قد نص عليه في (الأحكام)(3).
__________
(1) في هامش (ب): صوابه عن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه. فأبو المليح لم يكن صحابياًّ.
(2) ذكره في الأحكام ض/111.
(3) انظر الأحكام 1/54.(5/22)
والأصل في ذلك ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا أبو بكرة، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات أجمع بوضوء واحد(1).
وأخبرنا أبو بكر، أخبرنا أبو جعفر، حدثني يونس، حدثنا ابن وهب، أخبرني(2) عبد الرحمن بن زياد، عن أبي غطيف الهذلي، قال: صليت مع ابن عمر الظهر في مجلس في داره، فانصرفت معه حتى إذا نودي بالعصر، دعا بوضوء، فتوضأ، ثم خرج وخرجت معه، وصلى العصر، ثم رجع إلى مجلسه، فرجعت معه حتى إذا نودي بالمغرب، دعا بوضوء، فتوضأ. فقلت له: أي شيء هذا يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله/64/ وسلم يقول: (( من توضأ على طهر، كتب اللّه عزَّ وجل له بذلك عشر حسنات )). ففي ذلك رغبت يا ابن أخي(3).
ففي ذلك تصحيح ما ذهب إليه يحيى بن الحسين عليه السلام في الاستحباب، وإذا لم يرو عن أحد تجديد الطهارة مع الجمع بين الصلاتين، أو اتباع نفل بفرض، أو فرض بنفل، علم أن الاستحباب فيه على ما ذكره يحيى(4) عليه السلام، لمن اشتغل عن الصلاة بغيرها من المباحات، وقد استدل يحيى عليه السلام بقول اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُم إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم} فلما كان الظاهر يقتضي أن تلي الصلاةُ الطهورَ، وكان قد ثبت أنَّه ليس بواجب على المتطهر، ثبت أنَّه مستحب.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/41.
(2) في (ج): أخبرنا.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/42 بزيادة بعد أي شيء هذا يا أبا عبد الرحمن؟ الوضوء لكل صلاة؟ فقال: وقد فطنت لهذا مني؟ ليس سنة، إن كان لكاف وضوئي لصلاة الصبح صلواتي كلها ما لم أحدث، ولكني سمعت...إلخ.
(4) انظر الأحكام 1/54.(5/23)