وجملة الكلام في أخبارهم التي رووها في هذا الباب هي ما أشرنا إليها، ونحن نشرح ذلك بإيجاز واختصار:
فأما الوجه الذي منه يعلم أن الأخبار غير صحيحة، فهو أن العمدة في ذلك حديث بسرة.. أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا أبو جعفر الطحاوي، حدثنا أبو بكرة، حدثنا الحسين بن مهدي، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة أنَّه تذاكر هو، ومروان، الوضوء من مس الفرج، فقال مروان: حدثتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بالوضوء من مس الفرج(1)، فكأن عروة لم يرفع لحديثها رأساً، فأرسل مروان إليها شرطياً له(2) فرجع، وأخبرهم أنها قالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بالوضوء من مس الفرج.
فقوله: إن عروة لم يرفع بحديثها رأساً يدل على أنَّه لم يقبل حديثها ورده، وليس لأحد أن يقول: إنَّه ـ يعني عروة ـ شك في مروان دون بسرة بدلالة إنفاذ مروان شرطيه ليتعرف منها، وذلك أن الراوي لم يرفع لحديثها رأساً، فأما إنفاذ مروان شرطيه، فلا يدل على قبول عروة حديث بسرة، فإنه لا يمتنع أن يكون مروان أحب أن يستبين ثانياً لنفسه، على أن عروة إذا شك في قول مروان، فلأن يشك في قول شرطيه أولى، وروي عن ربيعة أنَّه كان ينكر ذلك ويقول: لو أن بسرة شهدت على هذا الفعل ما أجزت شهادتها، فهذا كما ترى قد رد العلماء حديثها.
وقد رووا وجوب الوضوء من مس الذكر، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وروي عن يحيى بن أبي كثير، أنَّه سمع رجلاً يحدث به في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ،عن عروة، عن عائشة؛ فأحد ما يوجب ضعفه أن يحيى بن أبي كثير لم يذكر من سمعه عنه.
__________
(1) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/71.
(2) سقطت (له) من (أ).(5/14)


وقد روي أيضاً ذلك من غير هذه الطريق، عن عروة، عن عائشة، وعن عروة، عن زيد بن خالد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك كله يضعف، بل يجب سقوطه، وذلك أن عروة أنكر الوضوء من مس الذكر، ولما روى له مروان(1)، عن بسرة، لم يقبل حديثها، وغير جائز أن يكون حديث رواه عروة، عن عائشة، وعن زيد بن خالد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويُرَدُّ ببسرة إذا روته، وينكر القول به، فهذا يدل على أنَّه غلط على عروة ووهم، سيما ومذاكرة عروة لمروان كانت بعد موت عائشة، وزيد بن خالد بزمان.
والكلام في كل ما روي عن عروة في هذا الباب، فهو على نحو ما قلناه، فإنهم يروون ذلك عن عروة، عن أبيه، عن أروى بنت أنيس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن عروة عن بسرة، على أنَّه قد طُعن في إسناد كل واحد من هذه الأحاديث، إلاَّ أنا اقتصرنا على الإشارة إلى هذا الوجه الواحد مما(2) روي عن عروة طلباً للإيجاز، وتجنباً للإطالة.
ورووه أيضاً عن صدقة بن عبد الله، عن هشام بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصدقة هذا ضعيف عندهم، وكذلك هشام بن زيد ضعيف عندهم.
ورووه عن العلاء بن سليمان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، والعلاء هذا عندهم ضعيف، والزهري عندنا في غاية السقوط، فقد روي أنَّه كان أحد حرس خشبة زيد بن علي عليه السلام حين صُلب.
ورووه عن يزيد بن عبد الملك النوفلي، عن أبي(3) موسى الخياط، عن أبي سعيد المقبري/60/، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويزيد هذا ضعيف عندهم غير مقبول، وأبو موسى الخياط مجهول، وجملة الأمر أن كل حديث رووه في هذا الباب هو ضعيف السند، أو مرسل، فيجب أن لا يحتجوا به.
فإن قيل: فأنتم تقبلون المراسيل، فيلزمكم قبولها.
__________
(1) في (أ) و(ب): عن مروان.
(2) في (ج): فيما.
(3) في (ب): ابن، وبهامشها: أبي.(5/15)


قلنا: نحن ندفع ذلك من سائر الوجوه التي ذكرناها، ونذكر بعد هذا، وإنما بينا بهذا أن القوم لا يجوز لهم أن يحتجوا بهذه الأخبار على أوضاعهم، فأما نحن فندفعها بأنها منسوخة، وبأن الصحابة أجمعت على القول بخلاف موجبها، وأن أهل البيت عليهم السلام أجمعوا على ما أجمعت عليه الصحابة من ذلك، وأن أمير المؤمنين عليه السلام قال بخلاف موجبها، وروي أن يحيى بن معين ذكر في (التاريخ) أنَّه لا يصح في الوضوء من مس الذكر حديث، وكان لا يقول به.
فأما ما يبين أن ما روي في هذا الباب يجب(1) أن يكون منسوخاً، فهو ما روي عن قيس بن طلق بن علي، عن أبيه، أنَّه سأل النبي(2) صلى الله عليه وآله وسلم: أمن مس الذكر وضوء؟ فقال: (( لا )).
وما رواه أن رجلاً سأله عن مثل ذلك، فقال: (( هل هو إلاَّ بضعة منك؟ ))
وذاك أنَّه لا يجوز أن يكونوا سألوا عن(3) ذلك إلاَّ من بعد ما بلغهم حديث الوضوء منه؛ لأنَّه لو لا ذلك، لكان سؤالهم عن ذلك كسؤال من يسأل عن سائر الأعضاء، هل في مسها أو مس شيء منها وضوء؟، وذلك لا معنى له، فعلم بذلك أنهم كانوا سمعوه من قبل، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا وضوء منه ))، يجب أن يكون متأخراً، فيجب أن يكون ناسخاً.
فإن قيل، قوله: (( هل هو إلاَّ بضعة منك؟ ))، يدل على أنَّه متقدم؛ لأنَّه لو لم يكن كذلك، لكان للسائل أن يقول قد كان الوضوء واجباً من مسه وهو كبضعة مني؟
قيل له: إنَّه صلى الله عليه وآله وسلم نبه على علة الحكم فيه في ذلك الوقت، ولا يمتنع أن يكون ذلك يصح في وقت ولا يصح في وقت، إذا منع من صحتها الشرع، ألا ترى أن علة الربا لم تكن علة للتحريم قبل تحريم الربا؟ وهي كانت على ما هي عليه الآن، فكذلك ما ذكرناه، وهذا السؤال مأخوذ ممن قال بنفي القياس، وهو ظاهر الفساد.
__________
(1) سقطت (يجب) من (أ) و(ب).
(2) في (ب) و(ج): رسول الله.
(3) في (أ): من.(5/16)


وأما وجه التأويل فيها فهو أن يحمل على غسل اليد، فقد روي عن بعض الصحابة.. روى مصعب بن سعد بن أبي وقاص أن أباه أمره بذلك، وذلك كما تأول عامة العلماء ما روي في الوضوء من أكل ما مسته النار على غسل اليد، وهذا لا يمتنع أن يؤمر الإنسان به على سبيل الاحتياط؛ لأن ذلك الموضع ربما تصيبه بلة من النجاسة، كما روي: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده )).
وأما وجه التعارض، فلأنه روي وجوب الوضوء من مس الذكر، وروي أن لا وضوء منه، فهذا ظاهر في التعارض، فإذا تعارضت، سقطت، ووجوب الرجوع إلى الأصل في أنَّه لا وضوء منه، كأنه لم يرو فيه شيء.
فإن قيل: خبر إيجاب الوضوء أولى؛ لكثرة رواته.
قيل له: بل خبر نفيه أولى؛ لسلامة سنده، ولقول عليَّة الصحابة بموجبه، وهذا الترجيح أولى من كثير من التراجيح التي تذكر في هذا الباب، فإما أن يترجح خبرنا أو يتساوي الخبران، وكلاهما يوجب أن لا وضوء منه.
فأما طريقة القياس فيه فواضحة؛ لأنه مقيس على سائر الأعضاء بعلة أنَّه بعض الإنسان، وهذه علة قوية؛ لأن النبي صلى الله عليه/61/ وآله وسلم نبه عليها بقوله: (( هل هو إلاَّ بضعة منك؟ ))، على ما بيناه فيما مضى.
مسألة [ في لمس المرأة ]
قال: ولا ينقضها لمس المرأة.
وهذا قد نص عليه في كتاب (الأحكام)(1)، وهذا أيضاً مما أجمع عليه أهل البيت عليهم السلام، ويدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا محمد بن جعفر الأنماطي، حدثنا علي بن هرمز ديار، حدثنا أبو كريب، حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقبل بعض نسائه، ولا يتوضأ )).
__________
(1) انظر الأحكام 1/54.(5/17)


وأخبرنا أبو العباس الحسني رضي اللّه عنه، أخبرنا محمد بن جعفر الأنماطي، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الصنعاني، عن عبد الرزاق، عن إبراهيم بن محمد، عن معبد بن نباتة، عن محمد بن عمرو، عن عروة، عن عائشة، قالت: قبلني رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وصلى، ولم يحدث وضوءاً )).
وممن روى ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة.. وعبد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن عائشة.
وروى الأوزاعي، عن يحيى بن أبي سلمة، عن أم سلمة، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبلها وهو صائم، لا يفطر، ولا يحدث وضوءاً.
وروي(1) عن عائشة، أنها طلبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلاً، قالت: فوضعت يدي على صدر قدمه ـ وهو ساجد يقول كذا وكذا ـ فلو كان ذلك ينقض الطهارة، لم يمض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سجوده.
وهذه الأخبار كلها قد دلت على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء.
فإن قيل: إن الذي رويتموه من القُبلة، والمس يجوز أن يكون كان والثوب حائل بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين عائشة، وهو فعل لا يمكن ادعاء العموم فيه.
قيل له: إن ذلك صرف للحديث عن ظاهره، وذلك أن من قبل خمار المرأة، لا يكون قبلها على الحقيقة، وإن جاز أن يقال قبلها على سبيل التوسع والمجاز، وكذا إذا مست المرأة الثوب الذي على صدر قدم الرجل، لا يقال: إنها مست صدر قدمه، إلاَّ على المجاز، ولا يجوز صرف الخبر عن الحقيقة إلى المجاز إلاَّ بدليل، وعلى ما بيناه لا حاجة بنا(2) إلى ادعاء العموم فيه، فلا يقدح فيما ذكرناه تعذر ادعاء العموم؛ إذ قد بينا أن ظاهر الخبر يقتضي أنَّه لم يكن بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبينها حجاب ثوب حائل.
فإن استدلوا لصحة مذهبهم بقول اللّه تعالى: {أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ}، فإن الملامسة عندنا هي(3) الجماع دون اللمس باليد، يدل على ذلك:
__________
(1) في (ب): ورووا.
(2) في (ب) و(ج): لنا.
(3) في (أ) و(ب): هو.(5/18)

25 / 138
ع
En
A+
A-