وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: نُبئت أن شيخاً من الأنصار كان يمر بمجلس لهم فيقول: أعيدوا الوضوء، فإن بعض ما تقولون شر من الحدث.
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا ابن علية، عن هشام، عن محمد، قال: قلت لعَبِيْدة: فيم يعاد الوضوء؟ قال: من الحدث، وأذى المسلم.
والذي يدل على ذلك قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ..} الآية[الحجرات:2] وقوله سبحانه: {لِئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبطَنَّ عَمَلُكَ}، فثبت أن المعاصي تحبط الأعمال، وإحباط الأعمال إنما هو إحباط أحكامها وثوابها؛ لأن أعيانها قد عِدِمت، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا، ثبت بطلان طهارة العاصي، فوجب إعادتها.
فإن قيل: الإحباط يتناول ثواب الأعمال، دون سائر أحكامها، ألا ترى أن أحكام الشهادة ثابتة للفاسق؟ ولا يجب عليه أيضاً إعادة سائر الطاعات.
قيل له: الآية تقتضي بطلان جميع أحكامها إلاَّ ما خصه الدليل، فسائر ما ذكرت لولا أن الدليل قد خصه، لقلنا: إن جميعه قد بطل، وإذا ثبت هذا، ثبت وجوب بطلان جميع(1) أحكام الوضوء، إذ لا دليل على أن بعضها ثابت.
فإن قيل: إذا ثبت أن الثواب مراد بالإحباط، لم يجز أن يراد به سائر الأحكام؟
قيل له: عندنا أن اللفظة الواحدة يجوز أن يراد بها المعنيان المختلفان، فلا معنى لهذا السؤال عندنا.
ويدل على ذلك: ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا أبو بكر عبد اللّه بن عبد الملك الشامي، حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي، حدثنا بَذَل بن المحبر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: (( كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا بالوضوء من الحدث، ومن أذى المسلم )).
وإذا ثبت أن أذى المسلم ما لم يكن كبيرة لم تنتقض الطهارة به بالإجماع، ثبت أن الناقض منه ما كان كبيرة، فيجب أن يقاس عليه سائر الكبائر/57/.
__________
(1) سقطت (جميع) من (أ) و(ب).(5/9)
واستدل على ذلك أصحابنا بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أمر من قهقة في الصلاة بإعادة الوضوء، والصلاة، فقالوا: إنما أمر بذلك من حيث كان الضحك معصية؛ لأن الضحك ليس بحدث؛ إذ لو كان حدثاً لكان لا فصل بين كونه في الصلاة، وخارجاً من الصلاة، كسائر الأحداث، فإذا ثبت ذلك ثبت أن المعاصي تنقض الطهارة، قياساً على القهقة في الصلاة الواقعة على سبيل العمد.
فإن قيل: قولكم هذا يقتضي أن الفاسق لا صلاة له، فإنه يلزمه إعادتها؛ لأنَّه أبداً في حكم المحدث حتى يتوب، وهذا خلاف الإجماع.
قيل له: ليس الأمر كما(1) ذكرت؛ لأنه لا يصير في حكم المحدث إلاَّ إذ استحدث فعل الكبيرة، فإذا استحدث فعل الكبيرة، بين الوضوء والصلاة فعليه تجديد الطهارة، وإن لم يستحدث كان على الطهارة، وليس يجب أن يكون حصوله غير تائب بمنزلة الحدث، بل الذي بمنزلة الحدث إنما هو فعل المعصية.
فإن قيل: فقد(2) روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( لا وضوء إلاَّ من صوت، أو ريح ))؟
قيل له: الأدلة كلها كالدليل الواحد، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا وضوء إلا من صوت أو ريح، أو كبيرة؛ للأدلة الَّتِي قدمناها، وهذا الجنس من التأويل لا بد لجميع الأمة منه؛ إذ لا أحد منهم إلاَّ وهو(3) يقول: إن الطهارة تنتقض من غير صوت أوريح، والأقرب أن هذا الخبر ورد في من شك هل أحدث ريحاً، أم لا، ويؤيد هذا الذي ذكرناه ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( إن الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين إليتيه، فلا ينصرفن حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً )).
فإن قيل: إن الخبر لا يجب قصره على السبب الذي خُرِّج عليه عندكم، بل يجب حمله على ما يقتضيه اللفظ.
__________
(1) في (ج) و(ب): على.
(2) سقطت (فقد) من (ب) و(ج).
(3) سقطت (هو) من (ج).(5/10)
قيل له: كذلك نقول، إلاَّ أن يدل الدليل على أنَّه يجب قصره على السبب، فقد دل ما ذكرناه من الأدلة على ذلك، ألا ترى أن اللفظ لفظ(1) العام لو لم يرد في سبب خاص، ودل الدليل على أنه خاص وجب أن يحكم بذلك، فوروده في سبب خاص لا يمنعه من ذلك، بل يؤكده.
ويمكن أن تقاس المعاصي على القهقهة في الصلاة، الواقعة على سبيل العمد؛ لكونها معاصي إذا كان الكلام مع أصحاب أبي حنيفة، ويمكن أن يقاس على لمس المرأة المحرمة بتلك العلة إذا كان الكلام مع أصحاب الشافعي، وليس لأحد أن يقول: إن هاتين العلتين ليس لهما تأثير؛ لأنهما عندنا يؤثران في الأصل، ألا ترى أنا نقول أن(2) القهقهة لو وقعت على غير سبيل العمد، وعلى وجه لا يكون معصية، لم تنتقض الطهارة، وكذلك نقول في لمس المرأة، والتأثير يجب أن يكون على أصل المعِلل.
مسألةٌ [ في مس الفرجين ]
قال: ولا ينقضها مس الفرجين.
ونص القاسم عليه السلام على ذلك في (مسائل النيروسي)، وهو المحفوظ عن سائر أهل البيت عليهم السلام، لا يعرف عن أحد منهم في ذلك خلاف، والذي يدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا أبو جعفر الطحاوي، حدثنا يونس، حدثنا سفيان، عن محمد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه، أنَّه سأل رسول اللّه صلى الله عليه/58/ وآله وسلم أفي مس الذكر وضوء؟ قال: (( لا ))(3).
وأخبرنا أبو بكر، قال: حدثنا أبو جعفر، حدثنا محمد بن خزيمة، حدثنا حجاج، حدثنا ملازم، حدثنا عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه سأله رجل فقال: يا نبي الله، ما ترى في مس الرجل ذَكَره بعد ما توضأ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( هل هو إلاَّ بضعة منك؟ )) (4).
__________
(1) سقطت (لفظ) من (ج).
(2) سقطت (أن) من (ج).
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/75.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/76، إلا أنه زاد:أو مضغة منك.(5/11)
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُئل عن مس الذكر، فقال: (( هل هو إلاَّ جذوة(1) منك؟ )).
وأخبرنا أبو بكر، أخبرنا(2) أبو جعفر، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا(3) عبد اللّه بن محمد بن المغيرة،حدثنا مَسْعَر، عن قابوس، عن أبي ظبيان، عن علي عليه السلام، قال: (( ما أبالي أنفي مسست، أو أذني، أو ذكري ))(4).
وأخبرنا أبو بكر، حدثنا أبو جعفر، حدثنا ابن مرزوق، حدثنا عمرو بن أبي رزين، حدثنا هشام بن حسان، عن الحسن، عن خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم علي، وابن مسعود، وحذيفة، وعمران بن حصين، ورجل آخر، أنهم كانوا لا يرون في مس الذكر وضوءاً(5).
وروى الطحاوي بأسانيد تركت ذكرها كراهة الإطالة مثل ذلك، عن عطاء وشعبة مولى ابن عباس(6). وروي عن قيس بن السكن، عن ابن مسعود، وروي عن عمير بن سعيد، عن عمار بن ياسر(7).
فقد دل ما أثبتناه(8) من الأخبار على أن لا وضوء من مس الذكر من وجوه:
فمنها ما رويناه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفظاً.
ومنها ما رويناه عن علي عليه السلام، ومن مذهبنا أنَّه إذا قال قولاً لم يجز أن يخالف، ووجب أن يتبع.
ومنها أن ذلك إجماع الصحابة بدلالة هذه الأخبار التي رويت عنهم.
__________
(1) في (ج): حذوة.
(2) في (ج): حدثنا.
(3) في (ب) و(ج): أخبرنا.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/78.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/78.
(6) انظر شرح معاني الآثار 1/77 ـ 78.
(7) انظر شرح معاني الآثار 1/78.
(8) في (ج): ذكرناه.(5/12)
فإن قيل: كيف يكون ذلك إجماعاً، وقد روي خلافه(1)، وكذلك ابن عباس فكأنه لم يرو عنه ما فيه شيء، فأما ابن عمر فقد روي عنه الوضوء من مس الذكر، ولم يرو أنَّه كان يوجبه، فلا يجب أن نثبته مخالفاً لسائرهم، إذ كان لا يمتنع أن يكون فعله له على سبيل الاستحباب دون الإيجاب على أن ابن عمر كانت عادته مشهور في التشدد في الطهارة، فإنه كان يتوضأ لكل صلاة، وكان يدخل الماء في عينيه، وكان يتوضأ من أكل ما مسته النار، فيجوز أن يكون توضأ من مس الذكر على عادته على سبيل الاحتياط دون الإيجاب.
ومنها: أن الوضوء من مس الذكر لو كان واجباً، كان لا يجوز أن يخفى على مثل أمير المؤمنين عليه السلام، وابن مسعود، وحذيفة، وعمار وغيرهم رضي اللّه عنهم؛ إذ هو من الأمور التي تعم البلوى به، ونحن وإن لم نقل كما يقوله أصحاب أبي حنيفة بأن خبر الواحد لا يقبل فيما تعم البلوى به، فلسنا نجوز أن يكون أمراً تعم البلوى به، ثم يخفى على الصحابة وأكابرهم، حتى لا نثبت القول به عن أحد من الصحابة، وأحوالهم لا تخلو من أقسام، إما أن تكون هذه الأخبار لم تقع لهم وهذا مما لا نجوزه؛ إذ تجويز ذلك يؤدي إلى أنَّه يجوز أن يكون خفي عليهم كثير من الفرائض الظاهرة، وذلك مما لا يصح، أو يكونوا عرفوا نسخها، أو عرفوا أن المراد بالوضوء هو غسل اليد، أو تكون الأخبار غير صحيحة، أو حصل فيها التعارض، فتركت، ورجع إلى الأصل في أن لا وضوء، وأي ذلك ثبت، لم يثبت معه القول بوجوب الوضوء من مس الذكر/59/.
__________
(1) في (ب): عن عمر وسعيد وأنس، قيل له: قد روي عن هؤلاء كلهم نفي الوضوء منه، فأقل أحوالهم أن تتعارض الروايات عنهم، فيصيرون كأنهم لم يحفظ عنهم شيء. وفي (أ): قال وتحرير العبادة: عن ابن عباس وابن عمر، قلنا: أما ابن عباس فقد روي عنه نفي الوضوء عنه، فكأنه لم يرو عنه شيء، وأما ابن عمر...(5/13)