وذكر في (الأحكام) (1) غسل الوجه، فقال(2): (يغسله غسلاً، ولا يمسحه مسحاً)، ففصل بينهما، ولا فصل يعقل سوى ما ذكرنا، سيما(3) مع قوله بتعميم مسح الرأس، ثم قال: (ولا يجزيه حتى يحمل الماء في كفيه، فيغسل به وجهه)، فدل ذلك أيضاً على ما قلناه.
وقال في (المنتخب) (4) في مسح الرأس: (يأخذ الماء بيديه، ثم يريقه من كفيه ويمسح بهما)، فدل على أن المسح دون الغسل، والذي يدل على ذلك أن اللّه سبحانه فصل بين الغسل والمسح، فقال عزَّ وجل: {اغْسلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}، ولا فصل بينهما غير ما ذكرنا.
فإن قيل: ما أنكرتم أن الغسل يكون باستيعاب العضو، والمسح دونه، فيكون ذلك هو الفصل؟
قيل له: ذلك فاسد؛ لأن بعض العضو قد يغسل فيكون مغسولاً، وجميع العضو قد يمسح فيكون ممسوحاً، وذلك غير ممتنع في اللغة، على أنا قد دللنا فيما تقدم أن الرأس يجب استيعابه بالمسح، وأيضاً فإمساس الماء العضو، لا يقال فيه إنَّه غسل، وذلك ظاهر في اللغة، وإذا ثبت ذلك، وثبت أن اللّه تعالى قد أمر بغسل الوجه، فالماسح له لا يكون غاسلاً، فهو غير ممتثل للأمر.
وأيضاً روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( تحت كل شعرة جنابة، فبلّوا الشعر، وأنقوا البشر ))، والإنقاء لا يكون بالإقتصار على إمساس الماء/52/.
فإن قيل: فقد قال: (( بلوا الشعر ))، فالتبليل(5) دون ما تذهبون إليه؟
قيل له: إذا وجب غسل البشرة على ما نذهب إليه، فلا أحد فصل بين الشعر والبشرة في ذلك، والإنقاء لا يمنع التبليل، والاقتصار عليه يمنع الإنقاء.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه اغتسل فبقيت في جسده لمعة، فأخذ شعره ومسح اللمعة ببلته؟
__________
(1) ذكره في الأحكام 1/49.
(2) في (أ): قال.
(3) في (ج) و(ب): لا سيما.
(4) ذكره في المنتخب ص25.
(5) في (ب) و(ج): والتبليل.(4/33)
قيل له: يحتمل أن يكون الشعر الذي أخذه عليه السلام كان عليه من الماء مقدار ما إذا عُصر أمكن أن يغسل به اللمعة اليسيرة، وليس في الخبر أن اللمعة كانت كبيرة، وأن الماء الذي حمله الشعر كان يسيراً، فلا حجة لكم في الخبر.
ويدل على ذلك أيضاً أنه قد ثبت أن العضو النجس لا يُكتفي بمسحه بالماء، فكذلك مسح الوجه بالماء عن الحدث، والمعنى أنَّه غسل لعضو صحيح أريد للصلاة، وعلتنا أولى من علة من رد الوجه إلى الرأس؛ لأنَّه رد الغسل إلى الغسل؛ ولأن فيها زيادة شرع، وهي حاظرة.(4/34)
[باب القول في نواقض الوضوء]
مسألة [ فيما خرج من السبيلين ]
وتنتقض الطهارة بكل خارج من السبيلين.
وهذا قد نص عليه في (الأحكام) (1) وغيره، وهذه الجملة لا خلاف فيها إلاَّ في موضعين:
أحدهما: ما يذهب إليه فريق من الإمامية من أن المذي والودي لا ينقضان الطهارة.
والثاني: ما كان يذهب إليه مالك من أن الدم والدود إذا خرجا من السبيلين، لم تنتقض الطهارة بذلك.
والذي يدل على فساد ما ذهبت إليه الإمامية:
ما أخبرني به محمد بن عثمان النقاش، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال: (كنت رجلاً مذاءً، فاستحييت أن أسأل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( يا مقداد، هي أمور ثلاثة: الودي وهو: شيء يتبع البول كهيئة المني، فذلك منه الطهور، ولا غسل منه، والمذي: أن ترى شيئاً أو تذكره فتمذي، فذلك منه الطهور ولا غسل منه، والمني: الماء الدافق إذا وقع مع الشهوة، وجب الغسل )).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا أبو جعفر الطحاوي، حدثنا صالح بن عبد الرحمن، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، حدثنا الأعمش، عن منذر بن أبي يعلى، عن محمد بن الحنفية، قال: سمعته يحدث عن أبيه علي عليه السلام، قال: كنت أجد مذياً، فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك واستحييت أن أسأله؛ لأن ابنته عندي، فسأله فقال: (( إن كل فحل يمذي، فإذا كان المني ففيه الغسل، وإذا كان المذي ففيه الوضوء ))(2).
__________
(1) انظر الأحكام 1/52.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/46.(5/1)
ويبين صحة ما ذهبنا إليه أيضاً أن مجرى البول لا يخلو من أجزاء البول، ولا بد أن يخرج مع المذي أجزاء من البول، وذلك لا محالة يقتضي إنتقاض الطهارة، وبهذه العلة يستدل على مالك في أن الدود والدم إذا خرجا من السبيلين نقضا الطهارة؛ لأنهما لا يخرجان إلاَّ مع أجزاءٍ من الرطوبة، التي لا خلاف في أنها تنقض الطهارة، وهذه الدلالة حجتنا على الشافعي في تنجيس المني.
وأما(1) ما ترويه الإمامية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( كل فحل مذاء فليس عليه فيه وضوء )). ففيه نظر؛ لأنا نستضعف أخبار الإمامية، ولا نرى قبولها لعلل ليس هذا موضع ذكرها، على أن الخبر/53/ لو صح، لكان محمولاً على أنه لو(2) غلب لم يجب تجديد الطهارة له كالإسحاضة، وسلس البول، وسائر الأحداث اللازمة.
ويدل على فساد ما ذهب إليه مالك أيضاً:
ما رواه ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، عن العلا بن المسيب، عن الحكم، عن أبي جعفر، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر المستحاضة إذا مضت أيام أقرائها أن تغتسل، وتتوضأ لكل صلاة.
والأخبار في هذا كثيرة، فصرح صلى الله عليه وآله وسلم بإيجاب الوضوء من الإستحاضة، وإن كانت غير معتادة، على أن الدم عندنا ينقض الطهارة من أي موضع سال، وسنستقصي الكلام فيه بعد هذه المسألة، وذلك يأتي على مذهب مالك، بالإفساد.
مسألة [ في الدم المسفوح، والقيح، والقيء ]
قال: وينتقض الطهارة الدم المسفوح من أي جرح كان، وكذلك القيح، والقيء الذارع.
وقد نص على ذلك في (الأحكام)(3) وغيره. ويدل على ذلك:
__________
(1) في (ب) و(ج): فأما.
(2) في (ب) و(ج): إذا.
(3) انظر الأحكام 1/52.(5/2)
ما أخبرنا به أبو العباس الحسني، أخبرنا عبد اللّه بن محمد السعدي، حدثنا عبد اللّه بن محمد بن خالد القاضي، حدثنا سليمان بن المهدي، حدثنا كادح بن جعفر، حدثنا أبو حنيفة، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: قلت يا رسول اللّه، الوضوء كتبه اللّه علينا من الحدث فقط؟ قال: (( بل من سبع: من حدث، وتقطار بول، ودم سائل، وقيء ذارع، ودسعة تملأ الفم، ونوم مضطجع، وقهقهة في الصلاة ))، وهذا هو النص الصريح، لما ذهبنا إليه.
وأخبرنا محمد بن عثمان، حدثنا الناصر عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين بن علوان، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( القَلسْ يفسد الوضوء )).
وروى ابن جريج، عن أبيه، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( إذا قاء أحدكم في صلاته، أو رعف، فلينصرف، فليتوضأ )).
وروى يحيى بن الحسين، عن أبيه، عن جده القاسم، عن إسماعيل بن أبي أويس، عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: (( من رعف وهو في صلاته، فلينصرف، وليتوضأ، وليستأنف الصلاة )).
ويدل على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر المستحاضة بتجديد الوضوء لكل صلاة، وقال: (( إنما هو دم عرق ))، فعلل وجوب الطهارة بأن الخارج دم عرق، فوجب أن كل دم ينقض الطهارة.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( الوضوء مما خرج من السبيلين )) فجعل كل الوضوء مما خرج من السبيلين؛ لأن الألف واللام في هذا الموضع للجنس؟(5/3)