ويدل على ذلك أيضاً قول اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ..} الآية[المائدة:6]، فأحد ما نستدل به على ذلك من الآية أنَّه تعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، والفاء توجب التعقيب، فاقتضى ظاهر الآية أن يكون من يقوم إلى الصلاة يبدأ بغسل الوجه، وإذا ثبت وجوب الابتداء بالوجه، فلا قول بعده، إلاَّ قول من يوجب الترتيب فوجب القول به.
ويدل على ذلك أيضاً من الآية أنَّه قد ثبت أن الواو(1) توجب الترتيب شرعاً، يدل على ذلك:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه بدأ بالصفا حين أراد السعي بينه وبين المروة، وقال: (( أَبدأُ بما بدأ اللّه به ))، رواه أبو بكر بن أبي شيبة، في (كتاب الحج)، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أنه سأل جابراً عن حجة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول جابر في حديث طويل ـ: فلما دنى رسول الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم من الصفا قرأ: (( {إِنَّ الصَّفَا/47/ وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}[البقرة:158]، أبدأ بما بدأ اللّه به )) فبدأ بالصفا.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، أيضاً في (كتاب الحج)، عن ابن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن رجلاً أتاه، فقال: يا ابن عباس، ابدأ بالصفاء قبل المروة، أم بالمروة قبل الصفا؟ في حديث له فيه بعض الطول.
فقال ابن عباس: خذ ذلك من قِبَل القرآن، فإنه أجدر أن يحفظ، قال اللَّه عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}، والصفا قبل المروة. فجعل صلى الله عليه وآله وسلم المقدم في اللفظ مقدماً في الحكم، والمؤخر فيه مؤخراً في الحكم، وكذلك فعل ابن عباس، والفاصل بينهما هو الواو، فبان أنَّه يقتضي الترتيب.
__________
(1) في نسخة: أن الآية.(4/23)


وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال مطلقاً: (( أَبدأُ بما بدأ اللّه به ))، وهذا عام في كل ما بدأ بذكره.
وروي عن ابن عباس أنَّه قيل له: كيف تأمر بالعمرة قبل الحج والله يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله}[ البقرة:196]؟ فقال: كيف تقرأون الدَين قبل الوصية، أم الوصية قبل الدين؟ قالوا: الوصية قبل الدين. قال: فبأيهما تبدأون؟ قالوا: بالدين. قال: فهو كذلك(1).
فدل هذا من سؤالهم على أنهم قد عرفوا أن الترتيب يوجبه الواو(2)، وكذلك جواب ابن عباس يدل على ذلك، ألا ترى أنَّه لو لم يكن عنده حكم الواو كما ذكرنا، لكان الأولى أن يقول لهم: لا وجه لسؤالكم؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب.
وروي أيضاً عن ابن عباس أن رجلاً قال بين يديه: من يطع اللّه ورسوله، فقد رشد، ومن يعصِهما، فقد غوي، فنهاه عن ذلك، وقال: قل من يعص اللّه ورسوله، فلولا أن الواو توجب الترتيب لما كان لهذا الكلام معنى، فإذا ثبت ذلك، ثبت ما ذهبنا إليه في الترتيب.
فإن قيل: إن الواو لا تقتضي(3) الترتيب عند أهل اللغة.
قيل له: قد حكي عن قوم من أهل اللغة أنهم قالوا: إنَّه(4) يوجب الترتيب على أنا لو سلمنا أنَّه من جهة اللغة لا يوجب الترتيب، كان ما بيناه يوجب الترتيب شرعاً والشرع أولى من اللغة، فصح ما ذهبنا إليه، ويدل على ذلك أيضاً:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه توضأ مرةً مرةً، ثم قال: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلاَّ به ))، ثم توضأ مرتين مرتين، الخبر..
__________
(1) في (ب) فهو ذالك.
(2) في (أ): الواو يوجب الترتيب.
(3) في (ب) و(ج): توجب.
(4) سقطت (أنه) من (ج).(4/24)


وقد ثبت أن التكرار(1) في الثاني والثالث لم يقع إلاَّ لما حصل في الأول، ولا خلاف أن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الوضوء المرتب، وإذا ثبت هذا ثبت أنَّه كان في الأول مرتباً حين قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلاَّ به ))، فثبت به وجوب الترتيب، وهذا بعينه يدل على أن ترتيب اليمنى على اليسرى واجب؛ لأن من المعلوم أن وضوء رسول اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يرتب فيه اليمنى على اليسرى.
ويستدل من هذا الخبر من وجه آخر، وهو أنا نقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قال بعد ما توضأ: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلاَّ به ))، لا يخلو من أن يكون قال: ذلك في وضوء مرتب على ما نذهب إليه، أو في وضوء غير مرتب أصلاً، أو في وضوء غير مرتب فيه اليمنى على اليسرى، فلو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم/48/ قال ذلك في وضوء غير مرتب أصلاً، أو في وضوء غير مرتب فيه اليمنى على اليسرى، لوجب أن لا يجزئ الوضوء إلاَّ كذلك، وفي علمنا أن المرتب على ما نذهب إليه جائز، بل هو الأولى عند المخالفين، دليل على أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم يخرَّج عليه.
ويدل على وجوب ترتيب اليمنى على اليسرى:
ما رواه أبو هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا توضأتم، فابدأوا بميامنكم )). وروي عنه أيضاً: (( إذا لبستم، أو توضأتم، فابدأوا بميامنكم )).
فإن قيل: روي عن علي عليه السلام، أنَّه قال: ما أبالي بأي أعضائي بدأت، إذا أتممت الوضوء. وهذا يبطل قولكم.
__________
(1) في (ب) و(ج): التكرير.(4/25)


قيل له: معناه عندنا إذا عدت فيه، فأثبته على الترتيب؛ لأنَّه قال: إذا أتممت، والإتمام هو الإتيان به على الترتيب، ويدل على صحة هذا التأويل أنَّه لا خلاف في أن المستحب هو الترتيب، وأن تركه ليس بسنة، ولا يجوز أن يقول علي عليه السلام: لا أبالي بترك المستحب والعدول عن السنة، فبان أنَّه أراد به ما قلناه.
ويدل على ذلك من طريق النظر أنها عبادة تبطل بالحدث، فيجب أن يكون الترتيب من شرط صحتها فيما رتب بالواو، وقياساً على الصلاة، ويمكن أن يقاس على الصلاة أيضاً بعلة أخرى، وهو أنَّه عبادة ارتبط بعضها ببعض، ونسق بعضها على بعض بالواو، ويمكن أيضاً أن يقاس عليها بأنها عبادة تعود إلى شطرها في حال العذر مع القدرة عليها، فإن عارضوا قياسنا بقياسهم الوضوءَ على الإغتسال بعلة أنها طهارة، رجحنا قياسنا باستناده إلى الظواهر التي ذكرناها، وبالحظر، والاحتياط، وبأنه يفيد شرعاً، وبفعل الكافة من لدن الصحابة إلى يومنا هذا.
فصل [ في أن فرض الوضوء مرة مرة ]
ما ذكرنا من أن فرض الوضوء مرة مرة، والثانية والثالثة فضل وسنة، منصوص عليه في (المنتخب) (1)، ولا خلاف فيه إلاَّ في موضعين:
أحدهما: ما تذهب إليه الإمامية، أن المستحب منه مرتان، وأن الثالثة لا معنى لها.
والثاني: ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن تكرير مسح الرأس غير مستحب.
والذي يفسد جميع ذلك، ويصحح ما ذهبنا إليه:
ما أخبرنا به محمد بن عثمان، قال: حدثنا الناصر، حدثنا محمد بن منصور، عن أبي كريب، عن عبد الرحيم، حدثنا شريك، عن ثابت الثمالي، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن جابر، قال: توضأ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مرةً مرةً، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، وذلك عام في جميع الوضوء، فدخل فيه مسح الرأس كما دخل غيره.
__________
(1) انظر المنتخب ص26.(4/26)


وفيه الحديث المشهور، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم توضأ مرةً مرةً، وقال: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلاَّ به ))، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: (( هذا وضوء من يضاعف اللّه له حسناته مرتين ))، ثم توضأ ثلاثاً، وقال(1): (( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي )).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، أخبرنا أبو جعفر الطحاوي، حدثنا حسين بن نصر، حدثنا الفريابي، حدثنا زائدة بن قدامة، حدثنا علقمة بن خالد، أو خالد بن علقمة، عن عبد خير، عن علي عليه السلام، أنَّه توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: (هذا وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم) (2).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا الطحاوي، حدثنا ابن أبي/49/ داود، حدثنا علي بن الجعد، حدثنا ثوبان، عن عبده بن أبي لبابة، عن شقيق، قال: رأيت عليّاً وعثمان توضأا ثلاثاً ثلاثاً، وقالا: (هكذا كان يتوضأ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم) (3).
ويدل على أن تكرير مسح الرأس مستحب من طريق النظر أن المسح في الطهارة أصل في نفسه لا بدل(4) له، فوجب أن يستحب فيه التكرير كالغسل، وليس ينتقض ذلك بمسح التيمم؛ لأنا قد اشترطنا فيه أنَّه أصل، على أن القاسم عليه السلام قد رُوي عنه استحباب التكرير في التيمم. والمسح على الخفين عندنا منسوخ فلا يجوز القياس عليه، ولا النقض به، وما روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مسح مرة، فلا يعترض ما قلناه؛ لأنا نجيزه، فكيف وقد روينا أنَّه توضأ مرةً مرةً؟
فأما قولهم: إن المسح لو كرر، لصار غسلاً، فلا معنى له؛ لأن الغسل هو ما جرى عليه(5) الماء والمسح بالتكرير لا يصير كذلك.
مسألة [ في بيان الوجه والكعبين]
__________
(1) في (أ): فقال.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/29، إلا أنه قال: هذا طهور.
(3) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/29.
(4) في (أ): يدل.
(5) في (أ): عنه.(4/27)

20 / 138
ع
En
A+
A-