كنت وعدتك حين سهل اللّه الفراغ من كتابي الموسوم (بالتجريد لفتاوى القاسم ويحيى بن الحسين عليهما السلام) أن أفرغ(1) لشرح ما أودعته من المسائل، بما يحضر من الحجاج والدلائل، وهذا أوان الشروع فيه، والله الموفق لما أضمره وأنويه، وإياه عزَّ اسمه أسأل أن يعيننا على ما يقربنا منه ويزلفنا لديه، ويعصمنا فيما نكدح له ونسعى فيه، من أن نقصد فيه غير وجهه إنَّه سميع مجيب.
__________
(1) في (ب) : أفرع، وهو صحيح بمعنى أبداء.(1/6)
كتاب الطهارة
باب القول في المياه
الماء: طاهرٌ، وغير طاهر. والطاهر: طَهُور، وغير طهور.
فالطَّهور، هو: الماء المطلق الذي لم يَشِبْه ولا لاقاه نجس، أو طاهر غيَّر ريحَه، أو لونه، أو طعمه، ولم يُستعمل في تطهير الأعضاء.
والطاهر الذي ليس بطهور: ما شابه طاهر سواه فغيّره.
والنجس: كل ماء قليل شابه نَجَس أو لاقاه، قليلاً كان النَّجس أو كثيراً، غيّره أو لم يغيّره، أو كثير شابه من النجاسة ما غيّره.
هذه جملة تشتمل على ثلاث مسائل.
إحداها: أن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة صار نجساً، وإن لم تظهر عليه النجاسة، ولم يتغير بها.
والثانية: أن الماء إذا شابه طاهرٌ سواه فغيّره لم يُجزِ التطهر به، وإن كان طاهراً.
والثالثة: أن الماء المستعمل لا يجوز التطهر به.
قال: وقد نص الهادي عليه السلام على هذه المسائل في كتاب (الأحكام)، وقال في قطرتين أو ثلاث قطرات من بولٍ، أو خمرٍ في إناء: إنَّه لا يُتَطهر به، فإنه نجس، يدفق ذلك من الإناء، ويُطهر الإناء منه(1)، وكذلك لا يجوز شربه، وإن لم يتبين منه في الماء والإناء لونٌ(2) ولا ريح ولا طعم. ونص على نجاسة الماء الذي أدخل الكافر(3) يده فيه، فدل على أن ملاقاة النجس للماء كاختلاطه به(4).
وقال في (الأحكام): وكل مائعٍ وقع في ماء يسير(5) أو كثير فغير لونه، أو طعمه، أو ريحه، من خل(6) أو سكنجبين، أو مرق مما ينتفي به عنه(7) اسم الماء القراح، فليس لأحد أن يتوضأ به(8).
__________
(1) سقطت (منه) من (ب) و(ج).
(2) في (أ): وإن لم يتبين في الإناء منه، والماء لون.. إلخ.
(3) في (أ): كافر.
(4) ذكره في الأحكام 1/56، مع اختلاف بسيط.
(5) في (أ): قليل.
(6) ظنن في (ب) بجلاب. والجميع صحيح.
(7) سقط من (ب): عنه.
(8) ذكره في الأحكام 1/64. وهو هنا بالمعنى.(2/1)
وفي (المنتخب)(1)، قلتُ: فإن لم يجد الجنب إلاَّ ماء عصفر، أو ماء فيه زعفران، أو ماء مستعملاً بمعنى من المعاني، هل يغتسل به؟ أو يتوضأ إن لم يكن جنباً؟ قال: لا يجزي في الطهور، والغسل من الجنابة إلاَّ الماء القراح.
وقال في (الأحكام) في الجنب: إذا اغتسل من ماء في مركن فأفضل فيه ماء، فقال: لا بأس بأن يتطهر بفضلته، ما لم يكن تراجع فيه من غسالة بدن الجنب شيء، فإن تراجع من غسالة بدنه فيه شيء، فلا يتوضأ به هو ولا غيره(2).
المسألة الأولى [الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة صار نجساً]
الذي يبين صحة ما ذهب إليه يحيى عليه السلام، من نجاسة الماء الذي وقع فيه النجس، وإن لم تظهر عليه، أن اللّه تعالى أمرنا(3) باجتناب الخمر عاماً، فقال عزَّ وجل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ..} إلى قوله {تُفْلِحُونَ}، فلم(4) يخص قليل ذلك من كثيره، ولا ما كان فيه من الماء دون غيره، وإذا لم يمكن اجتناب ما حصل منه في الماء، إلاَّ باجتناب ذلك الماء وجب اجتنابه، وليس في الشرع معنى للنجس أكثر من أنَّه يجب اجتنابه على كل وجه. ويدل على ذلك:
ما أخبرنا به(5) أبو بكر محمد بن إبراهيم بن عاصم المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن الحجاج بن سليمان الحضرمي، قال: حدثنا(6) علي بن معبد، قال: حدثنا أبو يوسف، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( أنه نهى عن أن يُبال في الماء الراكد، ثم يتوضأ فيه ))(7).
__________
(1) في (ب): وقال في المنتخب. وانظر المنتخب ص23، بزيادة، وهو هنا بالمعنى.
(2) هو في الأحكام 1/56، بزيادة: أو يكون أدخل فيه يديه قبل أن يطهرهما.
(3) في (أ): أمر.
(4) في (ب) و(ج): ولم.
(5) سقط من (أ): به.
(6) في (ب): حدثني.
(7) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/15.(2/2)
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا عبد اللّه بن لهيعة، قال: حدثنا عبد الرحمن الأعرج(1)، قال: سمعت أبا هريرة يروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الذي لا يجري ثم يغتسل فيه ))(2).
فلما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التوضؤ، والاغتسال في الماء الراكد الذي قد بِيلَ فيه نهياً عاماً، ولم يشترط التغَيُّر، ثبت ما ذهبنا إليه، من أن الماء اليسير يتنجس بحلول النجاسة فيه، وإن لم يتغير بها.
فإن قيل: فإن ذلك يلزمكم في الكثير.
قيل له: نخصه بالدليل، وسنبين الكلام فيه عند قولنا في الفرق بين الماء القليل والكثير.
فإن ادعوا تخصيص ما ذكرنا(3) بما أخبرنا به أبو الحسين علي بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا أبو عبد اللّه محمد بن شجاع، قال: حدثنا أبو قطن، عن حمزة الزيات، عن أبي سفيان السعدي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: انتهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى غديرٍ فيه جيفة، فقال: (( اسقوا واستقوا، فإنَّ الماء لا ينجسه شيء )).
__________
(1) في (ب): ابن الأعرج.
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/15. عن الربيع بن سليمان، به. إلا أنه قال: الماء الدائم يغتسل منه.
(3) في (أ): ما ذكرناه.(2/3)
وما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبيدالله بن عبد الرحمن(1) عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان يتوضأ من بير بضاعة، فقيل: يا رسول الله، إنَّه يُلقى فيها الجيف والمحائض، فقال: (( إن الماء لا ينجسه شيء ))(2).
وما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي داود الأسدي، قال: حدثنا أحمد بن خالد الوهبي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن سَليط بن أيوب، عن عبيد اللّه بن عبد الرحمن بن رافع، عن أبي سعيد الخدري، قال: قيل يا رسول الله، إنَّه يستسقى لك من بئر بضاعة وهي بير تطرح فيها عذرة الناس ومحائض النساء ولحوم الكلاب، فقال: (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ))(3).
الجواب، قيل له: هذه الأخبار وردت في المياه العظيمة، ونحن نذهب إلى أن مثل هذه المياه إذا اسقطت فيها النجاسات، لم تنجس، إلاَّ إذا تغير الماء بها، وقد روى قوم أن بئر بضاعة كانت طريق الماء إلى البساتين، ويحتمل أن تكون تلك البئر كانت لها عيون تغلب، ولا يمكن نزح ما فيها.
فأما الغدير، فلا يسمى مجمعاً للماء، إلاَّ إذا كان عظيماً، وكان الماء كثيراً، ومثله عندنا لا ينجس، إلاَّ أن يتغير بالنجاسة.
فليس في شيء من ذلك دليل على أن الماء اليسير لا ينجس بوقوع النجاسة فيه.
__________
(1) في (ب): عن حماد بن سليمان عن محمد بن إسحاق عبد الله بن عبد الرحمن. والصواب ما أثبتناه. وهو كذلك في شرح معاني الآثار ، ومسند الطيالسي 292.
(2) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/11، عن محمد بن خزيمة، به. وفيه: إن الماء لا ينجس. وهو في مسند الطيالسي كما في الأصل.
(3) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/11 عن إبراهيم بن أبي داود، وسليمان أبو داود الأسدي، عن الوهبي، به.(2/4)