فإن قالوا: الباء توجب التبعيض، فوجب بحكم الظاهر أن يكون الممسوح بعض الرأس.
قيل لهم: الباء توجب الإلصاق، ولا توجب التبعيض، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيْقِ}[الحج:29]، وقوه تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيْهِ الرَّحْمَة}[الحديد:13]، وقوله تعالى: {وَأْمُرْ قَومَكَ يَأْخُذُوا بَأَحْسَنِهَا}[الأعراف:145]، والباء في جميع هذه المواضع لإلصاق الفعل بالمفعول به، لا للتبعيض، ومن يقول: إنَّه للتبعيض لا يمنع(1) أنَّه يفيد الإلصاق للفعل، إلاَّ أنَّه يقول يقتضي إلصاقه، وتبعيض المفعول به، فصار اقتضاؤه للإلصاق متفقاً عليه، وما ادعوا من التبعيض مختلفاً فيه، فعلى من ادعاه الدليل، ولا دليل له.
فإن قيل: لو لم تجعل الباء للتبعيض، كنا قد سلبناه الفائدة؛ لأنَّه يكون دخوله كخروجه؛ إذ يكون المستفاد بقوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}، هو المستفاد بقوله: وامسحوا رؤوسكم؟
قيل له: قد بينا أن فائدة الباء هو الإلصاق، وكون الكلام مما يستقيم مع حذفه لا يؤثر فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}، أنَّه كان يستقيم مع حذفه، وليس فيه دليل أن الباء يفيد فيه التبعيض.
وروي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم توضأ مرةً مرةً، وقال: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلاَّ به ))، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: (( من توضأ مرتين، آتاه اللّه أجره مرتين، ثم توضأ ثلاثاً، وقال: (( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي )).
__________
(1) في (أ): يمتنع.(4/13)


وقد علم أن التكرير في الثاني والثالث لم يكن إلاَّ لما فعل في الأول، فوجب أن يكون المفعول أولاً وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مرة مرة، وقد ثبت أن مسح جميع الرأس وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فثبت أنَّه مما قال فيه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلاَّ به )).
وبين أنَّه وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا(1) أبو جعفر الطحاوي، حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي، وعبد العزيز بن عقيل، وأحمد بن عبد الرحمن، قالوا: أخبرنا عبد اللّه بن وهب، قال: أخبرني يحيى بن عبد اللّه/43/ بن سالم، ومالك بن أنس، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن عبد اللّه بن زيد بن عاصم المازني، عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( أنه أخذ بيده في وضوئه للصلاة ماءً، فبدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بيديه إلى مؤخر الرأس، ثم ردهما إلى مقدمه ))(2).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا(3) أبو جعفر الطحاوي، حدثنا إبراهيم بن مرزوق، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثني أُبَيُّ، وحفص بن غياث، عن ليث، عن طلحة بن مصرف، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مسح مقدم رأسه حتى بلغ القذال من مقدم عنقه ))(4).
وروي عن علي عليه السلام، أنَّه لما عَلَّمَ الناس وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، مسح رأسه مقبلاً ومدبراً.
فإن قيل: رُوي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مسح بناصيته.
قيل له: لا يصح التعلق بهذا من وجوه:
__________
(1) سقطت قال من (أ).
(2) أخرجه الطحاوي بلفظه في شرح معاني الآثار 1/30.
(3) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/30.(4/14)


أحدها: أنَّه ليس في الحديث أنَّه لم يمسح على غير الناصية، ويجوز أن يكون الراوي رآه حين انتهت يداه إلى الناصية، فروى ما شاهد، وهذا لا يدل على أنَّه لم يمسح الباقي.
والثاني: أنَّه يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم ترك مسح ما عد الناصية لعلة كانت برأسه.
والثالث: أن الناصية قد يعبر بها عن الرأس؛ لأنها اسم لما علا من الشيء، ولذلك يقال ناصية الجبل يراد ما علا منه، ومنه قول اللّه تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِيْ وَالأَقْدَامِ}[الرحمن:41].
والرابع: أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يجوز أن يكون تطهره حين فعل ذلك لغير الحدث، فلا يدل ذلك على أن الحدث يرتفع به، ولا يجوز أن يحمل على العموم؛ لأنَّه فعل واقع على وجه واحد.
والخامس: أنا قد رُوينا أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم مسح بجميع رأسه، والزائد أولى.
والذي يدل على ذلك من طريق النظر أنَّه قد ثبت وجوب استيعاب سائر الأعضاء للوضوء في الطهارة، فيجب استيعاب الرأس بالمسح قياساً على سائر الأعضاء بعلتين:
إحداهما: أنَّه عضو من أعضاء الطهارة.
والثانية: أن كل جزء منه موضع للفرض، لا خلاف في كون كل جزء منه موضعاً للفرض؛ إذ الكل قائل به، إما على طريق الجمع كما نقول، أو على طريق التخيير كما يقول المخالف لنا، فليس لأحد أن ينكر الوصف.
ويجوز أيضاً أن يقاس سائر الرأس على بعضه؛ إذ لا خلاف في وجوب مسح بعضه، فيجب مسح جميعه؛ لأن كل جزء منه بعض الرأس، ويدل على صحة هذه العلة أنَّ ما لا يكون بعضاً للرأس، لا يجب مسحه، وما كان بعضاً للرأس، وجب مسحه.
فأما قياس المخالف مسح الرأس على مسح الخفين فباطل عندنا؛ لأنا لا نرى المسح على الخفين أصلاً.
فصل [ في مسح الأذنين ]
وإذا ثبت وجوب مسح جميع الرأس، وثبت أن الأذنين من الرأس، وجب مسحهما ظاهراً وباطناً.(4/15)


وقد نص القاسم عليه السلام على أن الأذنين من الرأس، ودل عليه كلام يحيى عليه السلام؛ لأنَّه ذكر أنهما يمسحان مع الرأس من دون أن يؤخذ لهما ماء جديد.
والذي يدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا(1) الطحاوي، حدثنا نصر بن مرزوق، حدثنا يحيى بن الحسان، حدثنا حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة الباهلي/44/، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم توضأ، فمسح أذنيه مع رأسه، وقال: (( الأذنان من الرأس ))(2).
وأخبرنا أبو الحسين البروجردي، حدثنا(3) أبو بكر محمد بن عمر الدينوري، حدثنا يزداد بن أسد الدينوري، حدثنا يحيى بن العريان أبو زيد الهروي الخراساني، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( الأذنان من الرأس )).
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، حدثنا(4) أبو جعفر، حدثنا أحمد بن داود، حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رجلاً أتى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: كيف الطهور؟ فدعا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بماء فتوضأ، فأدخل اصبعيه السبابتين أذنيه، فمسح بإبهاميه ظاهر أذنيه، وبالسبابتين باطن أذنيه(5).
فهذه الأخبار كلها دالة على أن الأذنين من الرأس، وأنهما ممسوحتان مع الرأس بماء واحد.
فإن قيل: روي عن رسول اللّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنَّه مسحهما بماء جديد، وكذلك روي أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم مسح برأسه وصدغيه، ثم مسح أذنيه، ففصل بثم.
__________
(1) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.
(2) أخرجه الطحاوي ي شرح معاني الآثار 1/33.
(3) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.
(4) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.
(5) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/33.(4/16)


ثُمَّ قيل له: فلا يمتنع أنَّه فعل ذلك مرة لسبب، أو لأن الماء الذي على يده كان قد جف.
ولسنا نقول إن تجديد الماء محظور، وكذلك لو مسح مقدم رأسه بماء ومؤخره بماء جديد لم يضره، وإنما نقول أن أخذ الماء الجديد ليس بواجب، ولا مسنون، فبطل تعلقهم بما(1) تعلقوا به.
فإن قالوا: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الأذنان من الرأس ))، معناه أنهما ممسوحتان كالرأس؟
قيل له: ذلك خلاف الظاهر، بل هو في المجاز أيضاً بعيد؛ لأن مِن إذا لم تكن لابتداء الغاية، أو لم تكن صلة، كانت للتبعيض، فظاهره يقتضي أن الأذنين بعض الرأس، فأما ما ذكره فبعيد، ألا ترى أنَّه يبعد أن يقال: إن اليدين من الوجه بمعنى أنهما مغسولتان كالوجه.
ويمكن أن تقاس الأذنان على سائر أجزاء الرأس؛ بعلة أنهما بعض الرأس، فيجب أن يكون المسح عليهما مع سائر أجزاء الرأس بماء واحد، ويبين كونهما بعض الرأس الأخبار التي تقدمت.
مسألة [ في غسل القدمين ]
قال: ومن فرض الوضوء غسل القدم اليمنى مع الكعبين، ثم اليسرى كذلك.
وقد نص القاسم عليه السلام، ويحيى بن الحسين رضي اللّه عنهما في كتبهما(2) على وجوب غسل القدمين، وهو مذهب سائر أهل البيت عليهم السلام من الزيدية، ومذهب سائر الفقهاء.
والخلاف فيه بيننا وبين الإمامية، فإنهم يذهبون إلى أن الفرض هو المسح، والدليل على صحة ما نذهب إليه:
__________
(1) في (ج): لما.
(2) انظر الأحكام 1/50، والمنتخب ص26.(4/17)

18 / 138
ع
En
A+
A-