قيل له: لا يمتنع أن يطلق اسم السنة على الفرض، ألا ترى إلى ما رُوي: (( سَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فيما سقت السماء العشر ))، والعشر لا إشكال في أنَّه فرض، فإذا كان ذلك كذلك، لم يمتنع فرضهما بالأدلة التي بيناها.
فأما قول من قال من أصحاب أبي حنيفة: إن إثبات فرضهما /41/ زيادة في النص لا يجوز إثباتها بأخبار الآحاد، فإنه ساقط من وجهين:
أحدهما: ما بيناه في المسألة التي قبل هذه أن هذا القبيل من الزيادة لا يجب أن يكون نسخاً، ولا يمتنع إثباته بخبر الواحد على أصولنا.
والثاني: أن الظاهر عندنا مشتمل على المضمضة والاستنشاق؛ إذ الفم والمنخران من الوجه على ما بيناه في صدر هذه المسألة.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( عشر من سنن المرسلين )) وذكر فيها المضمضة والاستنشاق.
قيل له: قد بينا أن السنة تطلق على الفرض، ومعنى سنن المرسلين، أي ما داوموا على فعلها، وهو مأخوذ من سنن الطريق، ويبين ذلك أنَّه ذكر الختان في جملة هذه الخلال العشر، ولا خلاف في أنَّه فرض لا يسع تركه.
وليس لأحد أن يتعلق بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك ))؛ لأن داخل الفم والمنخرين أيضاً جلد، فيجب أن يمسه الماء، ولو جعلناه نحن دليلنا، لكان أولى.
ومما يدل على ذلك من طريق النظر: أنَّه باطن عضو يجب غسله ـ لا مشقة في غسله ـ فيجب أن يكون غسله واجباً قياساً على باطن القدم، وعلتنا هذه مرجحة على ما يعللون به بإفادة الشرع، والإحتياط، والاستناد إلى هذه الآثار القوية والنصوص الصريحة.
وليس يلزم على ما ذكرنا داخل العين وباطن الجفن، فإنا قد جعلنا في أوصاف العلة أن لا مشقة في غسله، وداخل العين وباطن الجفن، في غسلهما مشقة عظيمة.
ويمكن أيضاً أن يقاس باطن الأنف على ظاهره؛ بعلة أنَّه بعض من الأنف وبعض من الفم يلزمه حكم النجس، فيجب أن يلزمه حكم الحدث.(4/8)


مسألة [ في غسل الوجه وتخليل اللحية ]
قال: ومن فرض الوضوء: غسل الوجه وتخليل اللحية إن كانت.
وقد نص في الأحكام على وجوب تخليل اللحية.
والذي يدل على ذلك قول اللّه تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم}[المائدة:6]، وقد ثبت أن نبات الشعر على الوجه لا يخرج الوجه من أن يكون وجهاً؛ لأن الوجه اسم للعضو المخصوص، فنبات الشعر عليه لا يزيل الاسم عنه كسائر الأعضاء.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يجزي غسل اللحية عن غسل الوجه، كما أجزأ مسح شعر الرأس عن مسح جلد الرأس؟
قيل له: لا سبيل إلى مسح جلد الرأس إذا(1) كان عليه الشعر؛ لأن التخليل يخرج المسح عن أن يكون مسحاً إلى أن يكون غسلاً، وليس هكذا الغسل؛ لأن التخليل لا يخرج الغسل عن أن يكون غسلاً، بل هو أبلغ في كونه غسلاً، ويدل على ذلك:
ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، قال حدثنا وكيع، عن الهيثم، عن يزيد الرقاشي، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (( أتاني جبريل عليه السلام، فقال: إذا توضأت، فخلل لحيتك ))، فثبت وجوبه على الأمة؛ لأن كل ما أوجبته الشريعة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجب على كل(2) الأمة، إلاَّ ما يخصه الدليل.
وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن أبي عاصم، عن رجل ـ لم يسمه ـ أن علياً عليه السلام مرَّ على رجل يتوضأ فقال: (خلل لحيتك).
__________
(1) في (أ): إن.
(2) سقطت (كل) من (ب) و(ج).(4/9)


وأخبرنا أبو العباس الحسني، رضي اللّه عنه، قال: أخبرنا أحمد بن خالد الفارسي، حدثنا(1) محمد بن الحسين الخثعمي، حدثنا عباد بن يعقوب/41/، حدثنا حسين بن زيد بن علي، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، أنَّه مر برجل يتوضأ، فوقف عليه حتى نظر إليه، فلم يخلل لحيته، فقال: (ما بال أقوام(2) يغسلون وجوههم قبل أن تنبت اللحى، فإذا نبتت اللحى، ضيعوا الوضوء)، فإذا ثبت عن علي عليه السلام القول بوجوبه، كان عندنا واجباً، على أنَّه إذا لم يحفظ عن غيره من الصحابة خلافه، جرى ذلك مجرى الإجماع.
ويدل على ذلك أيضاً ما أجمعوا عليه من أن المغتسل من الجنابة يلزمه تخليل لحيته، فكذلك المتوضئ، والمعنى أنَّه مأمور بغسل الوجه تعبداً، لا لنجاسة به.
ويجوز أن يقاس بهذه العلة الملتحي على غير الملتحي، فيقال: قد ثبت وجوب إيصال الماء إلى بشرة الوجه إذا لم تكن عليه اللحية.
مسألة [ في غسل الذراعين مع المرفقين ترتيباً ]
قال: ومن فرض الوضوء: غسل الذراع اليمنى مع المرفق، ثم كذلك اليسرى.
وقد نص في (الأحكام) (3) في باب التيمم على وجوب غسل المرفقين مع الذراعين، وهو قول أكثر العلماء.
والذي يدل على ذلك:
ما أخبرنا به أبو عبد اللّه محمد بن عثمان النقاش، حدثنا(4) الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام، حدثنا محمد بن منصور، عن عباد بن يعقوب، عن قاسم بن عبد اللّه، عن عبد الرحمن بن أحمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا توضأ، يدير الماء على مرفقيه.
__________
(1) في (ب) و(ج): قال حدثنا، في جميع السند.
(2) في (ب) و(ج): قوم.
(3) انظر الأحكام 1/67 ـ 68.
(4) في (ب) و(ج): قال حدثنا. في جميع السند.(4/10)


وهذا الفعل منه عليه السلام يدل على الوجوب؛ لأنَّه بيان لمجمل واجب، وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان بياناً لمجمل واجب وجب، حمله على الوجوب، والذي يدل على أنَّه بيان لمجمل واجب أن اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ لما قال: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم وَأَيْدِيْكُم إِلَى الْمَرَافِق}، لم يُعقل من الظاهر أن المرافق تدخل في الغسل، أو لا تدخل؛ لأن ((إلى )) موضوع للحد، والحد قد يدخل في المحدود، وقد لا يدخل؛ لأن قول اللّه تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصَّيَامَ إِلَى اللًّيْلِ}، يوجب أن لا يدخل الليل في مدة الصيام، ولو قال رجل: لا أكلم زيداً إلى أن يقوم، لكان القيام داخلاً في المدة التي وقعت اليمين عليها، فإذا ثبت ذلك، احتمل أن تكون المرافق داخلة في الغسل، واحتمل أن تكون غير داخلة فيه، فصار الخطاب مجملاً، وإذا كان الخطاب مجملاً، وكان فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بياناً له، بان (أنه بيان مجمل واجب) (1).
مسألة [مسح جميع الرأس]
قال: ومن فرض(2) الوضوء: مسح جميع الرأس مقبله ومدبره وجوانبه مع الأذنين ظاهرهما وباطنهما.
وقد نص على ذلك في (الأحكام) و(المنتخب) (3)، ونص القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي) على ذلك وغيره(4).
والذي يدل على ذلك قول اللّه تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}[المائدة:6]، فوجب مسح جميع ما يسمى رأساً؛ لأن قوله: {بِرُؤوسِكُمْ}، لفظة شاملة لجميع ما يسمى رأساً، ومعلوم أن مراد الآمر إذا كان جميع ما يدخل تحت الاسم، فلا يزيد على إيراد لفظة شاملة لجميع ما يدخل تحت الاسم.
فإن قيل: إن ظاهر ذلك يقتضي من المسح مقدار ما يسمى الإنسان به ماسحاً لرأسه دون استيعاب جميع ما يقع عليه اسم الرأس؟
__________
(1) في (ج) وهامش (ب): وجوبه لكونه بيان مجمل واجب. بدلاً عمَّا بين القوسين.
(2) في (أ): فروض.
(3) انظر الأحكام 1/49. والمنتخب ص25.
(4) في (ج): وغيرها.(4/11)


قيل له: ليس الأمر على ما قدرت، بل حكم اللفظ يوجب استيعاب جميع ما يدخل تحت الاسم، ألا ترى أنَّه لا خلاف بيننا وبين مخالفينا أن قول اللّه تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِيْنَ}، يقتضي قتل كل من يقع عليه اسم الشرك؛ لكون الاسم متناولاً لجميعهم، ولو كان حكم اللفظ ما ذكروه، لوجب أن يكون الواجب من القتل/42/ هو القدر الذي إذا أتاه الإنسان سمي به قاتل المشركين، وذلك يكون إذا قتل ثلاثة من المشركين، فلما بطل ذلك، وكان الواجب الذي يقتضيه الظاهر أن يقتل جميع من يتسمى بمشرك، صح وثبت ما قلناه من أن الحكم إذا علق باسم، وجب أن يدخل في ذلك الحكم كل ما يتناوله ذلك الاسم، إلاَّ ما منع منه الدليل، وإذا صح ذلك، صح ما قلناه من أن قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}[المائدة:6]، يوجب مسح جميع ما يسمى بالرأس.
فإن قيل: فقول(1) اللّه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}[المائدة:38]، يقتضي قطع من يقع عليه اسم السارق سواءً(2) سرق القليل أو الكثير، إلاَّ ما منع منه الدليل، ولو كان الأمر على ما قلتم، لكان لا يوجب أن يقطع من سرق بعض مال.
قيل له: هذا غلط، وذلك أنا قلنا أن الحكم إذا علق باسم، وجب أن يدخل في ذلك الحكم كل ما يتناوله الاسم، فكان مقتضى ما قلناه فيما سألت عنه، أن يجب قطع كل سارق، إلا من قام دليله، وهذا ما لا ننكره، بل لا خلاف فيه بين كل من قال بالعموم، وهو أحد ما يوضح ما قلناه في المسح؛ لأن الأمر لو كان على ما قاله، لكانت الآية تقتضي من القطع ما يسمى الإنسان به قاطع سارق، فكان كون الواجب يقتضيه الظاهر قطع سارق واحد، وذلك فاسد، وأما المسروق فلا لفظ له، فيراعى فيه العموم أو الخصوص، فكيف يشبه حال المسروق ولا اسم له ولا لفظ في الظاهر حال ما ذكرنا. وهذا واضح بحمد الله.
__________
(1) في (أ): سقطت الفاء.
(2) في (ب) و(ج): وسواء.(4/12)

17 / 138
ع
En
A+
A-