قيل له: أرض المدينة أرض حصباء، إذا صُب عليها الماء، رسب في الأرض، كحاله إذا صب على الرمل، فالماء الملاقي للنجس إذاً ليس يستقر على وجه الأرض بل يرسب فيها ويصير في باطن الأرض، فلا يجب فيه ما قدرتم.
على أنَّه قد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بحفر ذلك الموضع.
أخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي (قال حدثنا فهد)(1)، قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن سمعان بن مالك الأسدي، عن أبي وائل، عن عبدالله، قال: بال أعرابي في المسجد فأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يصب عليه دلو من ماء، ثم أمر به فحفر مكانه(2).
مسألة [ في الاستنجاء باليمين ]
قال: ولا يجوز لأحد أن يستنجي بيمينه إذا أمكنه وإن فعله أجزأه.
وقد نص الهادي عليه السلام في (الأحكام) (3) على المنع من الإستنجاء باليمين، فدل(4) كلامه على أنَّه إذا فعله أجزأه، لأنَّه قال: (( نهى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، عن ذلك نظراً منه للمؤمنين، لما لهم فيها من المنافع في المآكل وغير ذلك )).
فبين أن الغرض فيه تنزيهها عن الأقذار، لا أن الإستنجاء بها لا يقع.
والذي يدل على أنَّه لا يجوز لأحد أن يستنجي بيمينه:
ما أخبرنا به أبو الحسين علي بن إسماعيل، حدثنا(5) الناصر، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد اللّه بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( إذا دخل أحدكم الخلاء، فلا يمس ذكره بيمينه )).
__________
(1) سقط من (أ).
(2) أخرجه في شرح معاني الآثار 1/14.
(3) ذكره في الأحكام 1/48.
(4) في (ب): ودل.
(5) في (ب): قال حدثنا. في جميع السند.(3/9)


وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قالوا لسلمان: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال أجل قد نهانا أن نستنجي باليمين.
فأما جوازه إن استنجى باليمين فلا خلاف فيه؛ ولأنه مثل إزالة سائر النجاسات في أنَّه لم يؤخذ على الإنسان إلاَّ إزالته بالماء المطلق.
مسألة [ في الاستجمار ]
قال: والإستنجاء بالأحجار قبل الماء مستحب، والمدر يقوم مقام الحجر.
وهذا قد نص عليه يحيى بن الحسين عليه السلام في (المنتخب)(1)، وهو مما لا أحفظ فيه خلافاً.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استنجى بالأحجار وأمر به، وقد ثبت أن الإستنجاء بالماء واجب، فثبت أن الاستنجاء بالحجر وما(2) يقوم مقامه مستحب.
مسألة [ فيمن يبول قائماً ]
قال القاسم عليه السلام: ويكره البول قائماً، إلاَّ من علة.
وقد نص عليه القاسم عليه السلام في (مسائل النيروسي). والذي يدل عليه:
ما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، حدثنا(3) الطحاوي، حدثنا إبراهيم بن مرزوق، حدثنا أبو عامر، قال أبو جعفر الطحاوي: وحدثنا فهد، قال: حدثنا أبو نعيم، قالا: حدثنا سفيان، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة، قالت: (( ما بال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قائماً منذ أنزل عليه القرآن )).
وفي بعض الروايات أن عائشة قالت: من حدثك أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بال قائماً، فلا تصدقه، وفي بعضها فكذبه.
والبول قاعداً أقرب إلى ستر العورة من البول قائماً، فيجب أن يكون ذلك أولى، وأن يكون البول قائماً مكروهاً؛ لأنَّه أقرب إلى إبداء العورة.
__________
(1) ذكره في المنتخب ص22. وهو هنا بالمعنى.
(2) في (أ): أو ما.
(3) في (ب): قال حدثنا. في جميع السند.(3/10)


وقد أخبرنا محمد بن عثمان بن سعيد النقاش، قال: حدثنا الناصر للحق عليه السلام، حدثنا(1) محمد بن منصور، عن يوسف بن موسى، عن محمد بن الصلت، عن قيس بن الربيع، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن العباس بن عبد المطلب، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( نهيت أن أمشي وأنا عريان )).
وفيه أيضاً وجه آخر وهو(2) أن البول قائماً أقرب إلى أن يترشش على البدن، فيجب أن يكره؛ لأنَّه خلاف الاحتياط.
وقد روي عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بقبرين، وقال: (( إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أحدهما كان لا يستنزه من البول ))، وقد ذكرنا الحديث عند ذكرنا بول ما يؤكل لحمه بإسناده.
فكل ذلك يبين صحة ما ذهبنا إليه من كراهة البول قائماً.
فإن قيل: روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بال قائماً رواه الطحاوي يرفعه.
وروي أيضاً يرفعه إلى شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي ضبيان، أن علياً عليه السلام بال قائماً، وروى مثله عن عمر أيضاً.
قيل له: قد بينا وجه الكراهة في ذلك، وليس يمتنع أن يكون هذا الفعل وقع منهم على سبيل الضرورة، ونحن لا نمنع من إجازة ذلك عند الضرورة، وهذا أولى؛ لنكون قد استعملنا الأخبار كلها.
__________
(1) في (ب): قال حدثنا.
(2) سقطت من (ب).(3/11)


باب القول في صفة التطهر وما يوجبه
مسألة [ في النية ]
فرض الوضوء النية.
وقد نص الهادي عليه السلام عليها في (المنتخب) (1).
والدليل على ذلك قول اللّه تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدِّيْنَ}[البينة: 5].
ووجه الاستدلال منه أنَّه قد ثبت أن اللّه تعالى لم يأمر إلاَّ بأن يُعبَد على طريق الإخلاص، وثبت أنَّه أمر بالوضوء، فقد ثبت أنَّه أمر به على طريق الإخلاص، والشيء إذا جاز أن يقع على وجه الإخلاص، وعلى غير وجه الإخلاص، لم يجز أن يقع على وجه الإخلاص إلا بالنية؛ لأن الأفعال إذا جاز وقوعها على وجوه مختلفة، لم يجز أن يقع على بعضها إلاَّ بالقصد، وإذا ثبت ذلك ثبت أنَّه لا بد من قصد مُضَامٍّ للوضوء.
وقد سأل بعض أصحاب أبي حنيفة على هذا، فقال: لو كان الوضوء يجب أن يضامه القصد من حيث هو عبادة ومأمور به، للزم(2) ذلك في القصد نفسه؛ لأنه عبادة ومأمور به، وذلك يؤدي إلى وجوب وجود مالا يتناهى من القصد، وهذا السؤال بعيد جداً، وذلك أنا إنما قلنا في الوضوء ما قلناه؛ لأنَّه يجوز وقوعه على وجوهٍ مختلفة، وكذلك نقول في سائر الأفعال التي تصح فيها هذه القضية؛ فأما القصد نفسه فإنه لا يجوز أن يقع على وجوه مختلفة؛ بل يختص كل قصد بوجه يقع عليه؛ لأن القصد إلى أن يكون الشيء قربة إلى اللّه تعالى لا يجوز أن يكون قصداً إلى أن يكون قربة إلى غيره؛ ولهذا نقول إن القديم ـ سبحانه ـ لا بد أن يكون مريداً لجميع أفعاله خلا الإرادات والكراهات، وهذا بيّن، وسقوط ما سألوا عنه واضح.
فإن قيل: فقد أُمرنا بإزالة النجاسات عن أبداننا وثيابنا عند الصلاة، وكذلك قد أُمرنا بستر العورة، ومع ذلك لا يجب أن يضامها القصد؟
__________
(1) انظر المنتخب ص26.
(2) في (أ) و(ب): أوجب.(4/1)


قيل له: لو خُلِّينا وظاهر الآية، لأوجبنا ذلك، إلاَّ أنا خصصناه بدلالة الإجماع، على أنا لو دفعنا سؤالهم في القصد بأنه مخصوص بالإجماع، لكان ذلك جائزاً، إلاَّ أنا أحببنا كشف الكلام فيه، لأنَّه أصل كبير.
فإن قيل: العبد يكون مخلصاً من حيث اعتقد الإيمان فهو إذاً مخلص في سائر شرائعه من حيث اعتقد الإيمان، لأنَّه لو لم يكن مخلصاً، لكان مشركاً، لأن ضد الإخلاص الشرك، فكان يجب أن يكون من لم ينوِ مشركاً.
قيل له: ما قلتَ إن العبد يكون باعتقاد الإيمان مخلصاً في جميع الشرائع، فليس الأمر على ما قلتَ؛ لأنَّه لا يمتنع أن يكون يعتقد الإيمان، ويخلص في عبادةٍ ولا يخلص في أخرى، والآية اقتضت أن يُضامَّ الإخلاصُ جميع العبادات، ألا ترى أن قائلاً لو قال: ما أمر فلان إلاَّ بأن يخرج راكباً، لأقتضى ذلك أن يكون خروجه يضامه الركوب، وكذلك لو قال: ما أمر إلاَّ بأن يصلي متطهراً، فإذا كان ذلك كذلك، فلا بد من قصد يضام جميع العبادات بحكم الظاهر، إلاَّ ما خص منه الدليل.
وقوله: إن ضد الإخلاص هو الإشراك ـ فلو كان الأمر على كما قلتم، لكان من لم ينو مشركاً ـ غلط /37/، وذلك بأنا لو سلمنا أن الإشراك ضد الإخلاص، لم يجب أن يكون من خرج عن الإخلاص مشركاً؛ لأن الشيء لا يمتنع أن يكون له أضداد كثيرة، فإذا خرج عن بعضها لا يجب أن يُحَصَّل على سائرها، ألا ترى أن حركة الإنسان إلى جهة يمينه يضاد حركته إلى جهة يساره؟ وكذلك تضاد حركة أمامه وحركة خلفه، وحركة فوقه، وحركة تحته، وإذا خرج عن أن يتحرك إلى ذات اليمين، فلا يجب أن يحصل متحركاً إلى جميع تلك الجهات. وهذا وضوحه يغني عن تكثير ضرب أمثاله.
فعلى هذا لا يمتنع أن يخرج الإنسان عن كونه متطهراً على وجه الإخلاص إلى كونه متطهراً على وجه العبث، وإلى وجه التبرد وغيرهما، وإن لم يكن متطهراً على وجه الإشراك؛ لأن المتطهر يكون متطهراً على وجه الإشراك إذا قصد به العبادة لغير الله.(4/2)

15 / 138
ع
En
A+
A-