فإن قيل: فأبو أيوب ذكر أنهم كانوا ينحرفون ويستغفرون اللّه حين وجدوا بالشام مراحيض قد بنيت نحو القبلة؟
قيل له: ذلك فعل منه، ولا يمتنع أن يكون رأى ذلك لما كان يسمع من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، دون سماع ما ورد في الترخيص.
فإن سألوا عما أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال(1): حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا علي بن معبد، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعيد، قال: حدثنا أبي، عن أبي إسحاق، قال: حدثني أبان بن صالح، عن مجاهد بن جبر، عن جابر بن عبد الله، قال: كان نهانا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، أن نستقبل القبلة أو نستدبرها بفروجنا للبول، ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة.
قيل لهم: لا يمتنع أن يكون رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يفعل ذلك(2) في العمارة وهو فعل لا يمكن ادعاء العموم فيه، وهذا التأويل أولى من حمله على النسخ؛ لأن الأخبار ما أمكن فيها الاستعمال، لم يجزْ حملها على النسخ.
مسألة [ في الاستنجاء ]
ويجب الإستنجاء بالماء على الرجال والنساء من كل خارج من السبيلين.
وهذا قد نص عليه في (المنتخب) (3).
والذي يدل على ذلك:
ما رواه زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن امرأة سألته: هل يجزي امرأة أن تستنجي بشيء سوى الماء؟ فقال: (( لا، إلاَّ أن لا تجد الماء )).
فإذا ثبت ذلك في النساء، ثبت في الرجال؛ إذ لم يفصل أحد من المسلمين بينهم في ذلك. ويدل على ذلك:
__________
(1) سقطت من (أ).
(2) سقط من (ب): (يفعل ذلك).
(3) ذكره في المنتخب ص24، وهو هنا بالمعنى.(3/4)
ما أخبرنا به محمد بن عثمان بن سعيد النقاش، قال: حدثنا الناصر للحق عليه السلام، قال: حدثنا محمد بن منصور، قال: حدثنا أحمد بن عيسى، عن حسين، عن أبي خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( أُعطيت ثلاثاً لم يٌعطَهن نبي قبلي: جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، قال اللّه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً طَيِّباً} )) إلى آخر الحديث.
فجعل قوله عليه السلام: (( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ))، مراد قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}، فاقتضى كون الأرض طهوراً بشرط عدم الماء.
وإذا ثبت ذلك، ثبت أن الإستنجاء بالحجر والمدر لا يجوز مع وجود الماء.
وأخبرنا محمد بن عثمان النقاش، قال: حدثنا الناصر للحق عليه السلام، قال: حدثنا محمد بن منصور، عن داود بن سليمان الأسدي، قال: أخبرنا شيخ من أهل البصرة يكنى أبا الحسين، عن أصرم بن حوشب الهمداني، عن عمر بن قرة، عن أبي جعفر المرادي، عن محمد بن الحنفية، قال: دخلت على والدي علي بن أبي طالب عليه السلام، فإذا عن يمينه إناء فيه ماء، فسمى، ثم سكب على يمينه ماء(1)، ثم استنجى ـ في حديث طويل. ثم قال: (( يا بني، إفعل كفعالي )). وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وقد كان القاسم عليه السلام يستدل بقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُم مِنَ الْغَائِطِ}، إلى قوله: {طَيِّباً}، فيقول: لم ينقل اللّه الجائي من الغائط عن الماء، إلاَّ عند عدم الماء، فيجب أن يكون الإستنجاء بغير الماء لا يجزي مع وجود الماء.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا يحيى بن يعلى، عن عبد الملك بن عمير، قال: قال علي عليه السلام: (( إن من كان قبلكم كانوا يبعرون بعراً، وأنتم تثلطون ثلطاً؛ فأتبعوا الحجارة الماء )) .
__________
(1) سقط (ماء) من (أ).(3/5)
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن سليمان، عن سعيد، عن قتادة، عن معاذة العدوية، عن عائشة، قالت: مُرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول، فإن رسول اللّه من كان يفعله، وأنا أستحييهم.
ومما يدل على ذلك أنَّه لا خلاف أن الزائد على قدر الدرهم من المتعدي للشرج يجب إزالته بالماء متى وجده؛ والعلة فيه أنها نجاسة يمكن إزالتها بالماء من غير مشقة عظيمة، فوجب أن يرد إليه ما خولفنا فيه من هذا الباب لهذه العلة.
والدليل على صحة هذه العلة أن تلك لو لم تكن نجاسة، أو كانت مما لا يمكن إزالتها أصلاً، أولا يمكن إزالتها إلاَّ بالمشقة كالنجاسة تكون على الجرح ونحوه، لم يجب إزالتها، ومتى حصلت هذه الأوصاف وجب إزالتها، فعُلِم أنها هي العلة.
ولا تنتقض باليسير من الدم الذي لا يسيل مثله؛ لأنَّه عندنا غير نجس، أو يقال إن ذلك يؤدي إلى المشقة.
وأما ما روي عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: (( ثلاثة أحجار ينقين المؤمن )) فلا ظاهر له، وذلك أنا قد علمنا أن ثلاثة أحجار قد لا تنقي، ويبقى بعدها القذر، وإذا لم يكن له ظاهر، فتأويله إذا لم يجد الماء، ولو كان له ظاهر، لكان الواجب أن يخص حال وجود الماء بالأدلة التي ذكرناها.(3/6)
فأما ما روي عن ابن مسعود، أنَّه قال: خرج رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لحاجته، فقال: (( إلتمس ثلاثة أحجار، فأتيته بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين، وطرح الروثة، وقال: إنها رجس ))، فليس فيه دلالة للمخالف؛ لأنَّه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان واجداً للماء، ولا أنَّه لم يستعمل الماء بعده، على أن قول عائشة كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يفعله ـ يعني الإستنجاء ـ بالماء بعده(1)، يبين أنه اقتصر على الأحجار، لعدم الماء، على أنَّه لا بد لأبي حنيفة أن يتأول الخبرين إذا سئل فيما زاد على قدر الدرهم من القذر المتعدي للشرج، وكذلك لا بد للشافعي من تأوله فيما تعدى الشرج قليلاً كان أو كثيراً.
فإن قيل: إن الإستنجاء من العشر التي جعلت من سنن المرسلين.
قيل له: المراد بسنن المرسلين، ما داوموا على فعلها، ألا ترى أنَّه ذكر فيها الختان ـ وهو فرض ـ على أن اسم السنة ينطلق على الفرض،
ألا ترى إلى ما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( فيما سقت السماء العُشُر )) فليس فيما ذكروا دلالة على أنَّه غير واجب.
مسألة [ في كيفية الاستنجاء ]
قال: ويبدأ بفرجه الأعلى فينقيه، ثم بفرجه الأسفل.
وهذا قد نص عليه الهادي عليه السلام في (الأحكام) و(المنتخب) (2) جميعاً.
وهذا يدل من قوله على أنَّه لا يفصل بين ورود الماء على النجاسة، وورود النجاسة على الماء، في أن الماء ينجس، لأنَّه إذا كان كذلك، يكون الوجه فيه أنه منع أن الإبتداء بالفرج الأسفل؛ لأنَّه لو ابتدأ به لكان الماء يلقى الفرج الأعلى وهو نجس، ثم ينزل إلى الفرج الأسفل، وقد صار نجساً، فلا يطهره، وإذا غسل الفرج الأعلى أولاً، كان ما ينحدر عنه من الماء طاهراً ويطهر به الفرج الأسفل.
__________
(1) ساقطة من (أ) و(ب)، إلا أنه ذكر في (ب)، في نسخة فقط.
(2) ذكره في الأحكام 1/49، وهو هنا بالمعنى. وذكره في المنتخب ص24.(3/7)
ومذهب الشافعي أن الماء لا ينجس إذا ورد على النجاسة، وينجس إذا وردت النجاسة عليه، وهذا لا معنى له؛ لأن أكثر ما استدللنا به على أن الماء اليسير ينجس بوقوع النجاسة فيه، يقتضي نجاسة الماء إذا ورد على النجاسة، مثل استدلالنا بقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} واستدلالنا بأن الماء اليسير إذا حصلت فيه النجاسة، ثم شرب أو تطهر به صار النجس مشروباً ومتطهراً به وغير ذلك، فكل ذلك يبين أنَّه لا فصل بين ورود النجاسة على الماء، وورود الماء على النجاسة.
فإن قيل: لو كان الماء ينجس بوروده على النجاسة، لكان يجب لوروده على أن لا يطهر النجس أبداً، لأنَّه كان ينجس الماء الوارد على النجاسة، ثم كان الماء الثاني ينجس الماء(1) الأول، ثم كذلك أبداً.
قيل له: ليس الأمر على ما قدرت، وذلك أن النجاسة والطهارة أمور شرعية، فيجب أن تكون أحكامها بحسب ما تقتضيه الشريعة، وليست أموراً عقلية فيرجع فيها إلى مقتضى العقل، وإذا كان ذلك كذلك، فغير ممتنع أن يرد الشرع بأن الماء إذا ورد على النجاسة نجّس الماء، وطهر الموضع، فإذا كان ذلك غير ممتنع، فليس علينا إلاَّ بيان ورود الشرع به.
وقد بينا ذلك بما دللنا عليه، على أنَّه لا فرق بين ورود النجاسة على الماء، ووروده على النجاسة، يكشف ذلك أن الأمر لو كان في النجاسة والطهارة على ما ذكروا، لوجب في البئر إذا وقعت فيها النجاسة أن لا تطهر أبداً، لأن الماء النجس إذا نزح، فلا شك أنَّه يترشش على جوانب البئر، فلو كان الأمر بالقياس، لكانت البئر لا تطهر أبداً، ولكن الشرع ورد بأنها تطهر بأن ينزح ماؤها، وهذا واضح، والحمد لله.
فإن استدلوا بأن أعرابياً بال في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر بأن يُصب عليه ذَنوب من ماء، فلو كان الماء ينجس بوروده على النجاسة، لكان ذلك الماء يزيد المسجد نجاسة.
__________
(1) في (ب): بالماء.(3/8)