ووجه قولنا: إنَّه مال مستحق للرجال والنساء على الإطلاق؛ إذ قد ثبت أن النساء قد أُرِدْنَ بقوله تعالى: {وَلِذِيْ الْقُرْبَى} فكان سبيله سبيل مال أُقر به لرجال ونساء(1) معدودين من غير ذكر التفضيل، فالواجب أن يستوي فيه الذكر والأنثى، فوجب أن يكون كذلك سهم ذوي القربى؛ والعلة أنه جُعل حقاً لرجال ونساء من غير ذكر التفضيل، فوجب التسوية، وهو قياس سهم اليتامى، وسهم المساكين، /104/ وسهم ابن السبيل في أنَّه لا يجب تفضيل الذكر على الأنثى فيه، والمعنى أنَّه من سُهمان الخمس، وليس هذا مما يصح للمخالف أن يعلله علينا بأن يقول: هذه السُهمان لا يجب(2) التسوية فيها بين الذكر والأنثى إذا رأى الإمام ذلك صلاحاً، وذلك أن لنا مثل هذا، وهو أنَّه قد تجب التسوية في هذه السُهمان، أعني سهم اليتامى، والمساكين، وابن السبيل إذا رأى الإمام ذلك صلاحاً، فكلا الجائزين فيها على حد واحد.
ويجوز أن يُعترضا، ويجوز أن لا يعترضا، وما ذكرناه حكم ثابت، وهو أنَّه لا يجب التفضيل فيه بالذكورة، فصح ما بيناه قياساً، واطرد، فقياسنا أولى من قياسهم سهم ذوي القربى على الإرث المستحَق بنسب الأب في إيجاب تفضيل الذكور على الإناث؛ لأنا قسنا سهم الخمس على سهم الخمس، وهم قاسوا سهم الخمس على الإرث؛ ولأنا قياسنا الأول تشهد له الأصول؛ لأن كل مال استحقه رجل وامرأة كمالٍ يكون في يد رجل وامرأة.
ويشهد لقياسنا سهام الصدقات؛ لأنَّه لا يجب في شيء منها تفضيل الذكور على الإناث، على أن قياسهم منتقض بما يوصي المريض على أقارب أبيه بصدقته؛ لأنَّه مال مستحق بنسب الأب، فلا يجب فيه تفضيل الذكر على الأنثى.
__________
(1) ـ في (أ): لنساء ولرجال.
(2) ـ في (أ): يصح.(34/25)


وجعلنا الإسلام والنصرة شرطاً في استحقاق ذوي القربى لِما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل لأبي لهب وأولاده في شيء من الخمس نصيباً حين كانوا على المشاقة والكفر، فكذلك من لم يحصل فيهم الإسلام والنصرة، فيجب أن لا يكون لهم فيه حظ، ولسنا نريد بالنصرة المحاربة(1)؛ لأن النصرة لو كانت مقصورة عليها، لم يكن للنساء فيه حق، وإنما نريد(2) بالنصرة لمعاونة بما أمكن من قول، أو فعل، أو نية.
مسألة [في سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل]
وأما سهام اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، فيتامى آل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ومساكينهم، وابن سبيلهم أولى به من غيرهم [إن وجدوا] (3)، فإن لم يوجدوا، صُرِف إلى أمثال هؤلاء الأصناف الثلاثة من أولاد المهاجرين، فإن لم يوجدوا صرف إلى أمثالهم من أولاد الأنصار، فإن لم يوجدوا، صرف إلى سائر اليتامى، والمساكين، وبني السبيل من سائر المسلمين.
وجميع ذلك منصوص عليه في السِير من (الأحكام)(4).
ذكر يحيى عليه السلام أنَّه جعل يتامى آل الرسول عليهم السلام، ومساكينهم، وابن سبيلهم(5) فيها أحق، فرأى صرف ذلك إلى من ذَكره أولى؛ لأن صرف هذه الأشياء إلى من تصرف إليه طريقه المصالح، فكان صرفه إلا من لاحظ له في الصدقات أصلح من صَرفه إلى من له فيها حظ.
وأيضاً لَمَّا خص النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بسهم من الخمس، وخص أهل بيته بسهم قلنا: إن يتاماهم، ومساكينهم، وابن سبيلهم، أولى بالباقي منه؛ لأن موضوعه موضوع التشريف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) ـ في (أ): المحاربة والمعاونة.
(2) ـ في (أ): يريد.
(3) ـ ما بين المعكوفين سقط من (أ).
(4) ـ انظر الأحكام 2/488 ـ 489 وهو بلفظ مقارب.
(5) ـ في (أ): وابن السبيل فهم.(34/26)


وذكر يحيى بن الحسين، عن علي بن الحسين عليهم السلام، أنَّه قال في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ..} الآية، هم يتامانا، ومساكيننا، وابن سبيلنا، وليس يظهر من مذهبه أن هذا على التحريم على غيرهم من اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والأقرب عندي أنَّه على الاستحباب، وتحري الصلاح في ذلك.
/105/ تقديم يتامى المهاجرين، ومساكينهم، وابن السبيل منهم بعد من ذكرنا؛ لأنهم أقرب إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولأن عناءهم كان أعظم، وهم كانوا المقدمين، وموضوع الغنائم أن للعناء فيه تأثيراً، ولذلك جاز للإمام أن ينفل، وجاز له أن يجعل سلب القتيل لقاتله، ورأى بعد هؤلاء تقديم أيتام الأنصار، ومساكينهم، وابن سبيلهم؛ لأن الأنصار يلون المهاجرين في جميع ما ذكرنا.
قال يحيى بن الحسين عليهم السلام: والآية قد نبهت على ذلك حيث يقول تعالى بعد قوله: {لِئَلاّ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِيْنَ الَّذِيْنَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} ثم قال: {وَالَّذِيْنَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالإِيْمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلِيْهِ} فكان(1) قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِيْنَ} تفسيراً لقوله: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِيْنِ وَابْنِ السَّبِيْلِ} بعد قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَللَّهِ وَلِلرَّسُولِ} وكل ذلك عندي وفيما أراه قاله يحيى بن الحسين(2)، على طريق الاستحباب والأولى(3)، والله أعلم.
مسألة [من يفرق الخمس]
قال: ولو أن رجلاً أصاب بعض ما يجب فيه الخمس، أخرج خمسه إلى الإمام ليصرفه(4) في أهله، فإن لم يجد الإمام، فرقه ـ هو ـ في مستحقيه.
__________
(1) ـ في (أ): كان.
(2) ـ في (أ): عليه السلام.
(3) ـ في (ب): هو الأولى.
(4) ـ في (أ): ليُفرَّق.(34/27)


وهذا منصوص عليه في (كتاب الزكاة) في (الأحكام) (1).
والأصل فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة بعده كانوا يتولون أخذ الخمس من الغنائم، ولم يكونوا يولون قسمته الغانمين، وكذلك روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أَخْذ خمس المعدن على ما مضى ذكره في مسألة خمس المعدن.
وعن عمر أنَّه أخذ من البراء بن مالك خمس سلب قتيله المرزُبان، ولم يُنْكَر عليه، فدل ذلك على أن الإمام هو المستوفي له، وهو قياس الصدقات، والمعنى أنَّه حق تعلق بالأموال لأقوام غير معينين، فوجب أن يكون استيفاؤه إلى الإمام.
وقلنا: إنَّه إذا لم يكن إمام، وضعه من لزمه في مستحقيه كما قلناه في الصدقات؛ لأنَّه حق لزمه، فإذا لم يكن من يستوفي عليه، استوفاه على نفسه؛ لئلا يضيع الحق.
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/189 وهو بلفظ قريب.(34/28)


كتاب الصوم
باب القول في كيفية الدخول في الصوم
[مسألة: متى يجب صيام رمضان؟]
لا يجب صيام شهر رمضان إلاَّ بعد رؤية هلاله أو ثبوتها بالخبر المتواتر، أو شهادة عدلين فما فوقهما، وكذلك حكم الإفطار، فإن كان في السماء علة من السحاب أو غيره عد الشهر ثلاثين يوماً.
قال في (الأحكام) (1): (إذا شهد شاهدان على رؤية الهلال في الصوم والإفطار، جازت شهادتهما، إذا كانا عدلين)، فجَعْلُه عدالتهما بمجموعهما شرطاً في جواز الشهادة بيانٌ أن شهادة الواحد لا تجزي في الإفطار، حَقِق ذلك.
وقال في آخر الكتاب(2): من رآه وحده، جاز له فيما بينه وبين اللّه أن يصوم، فدل بذلك أن شهادة الواحد لا تُلزم غيره حكماً في الصوم.
وذكرنا الخبر المتواتر تخريجاً؛ لأن عنده أن الغرض حصول العلم، ألا ترى إلى قوله فيمن رأي وحده للصوم والإفطار أنَّه يصوم ويفطر؟ والخبر المتواتر يوقع العلم، كما توقع /106/ الرؤية.
ونص ـ أيضاً ـ في (الأحكام) (3) على أنَّه إذا كان في السماء علة، عُدَّ الشهر ثلاثين يوماً.
وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنَّه يجب الصوم بشهادة الواحد، ووافقانا في الإفطار أنَّه لا يجب إلاَّ بشهادة عدلين، وحُكي عن مالك مثل قولنا في الصوم.
والأصل في ذلك ما:
رواه ابن أبي شيبة ـ بإسناده ـ قال: قدم على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم رجلان وافدان أعرابيان، فقال لهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( أمسلمان أنتما ))؟ قالا: نعم. فقال لهما: ((أهللتما ))؟ قالا: نعم. فأمر الناس فأفطروا، أو صاموا، فلما سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إسلام كل واحد منهما، وسألهما هل أهللتما، دل ذلك على أن الحكم تعلق بشهادتهما(4).
__________
(1) ـ انظر الأحكام 1/ 261.
(2) ـ انظر الأحكام 1/262 وهو بلفظ قريب.
(3) ـ انظر الأحكام 1/230 وهو بلفظ قريب.
(4) ـ أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف 2/320 وإسناده يزيد بن هارون عن عاصم عن أبي عثمان.(35/1)

137 / 138
ع
En
A+
A-