فهذه الأخبار كلها دالة على ما نذهب إليه في سهم ذوي القربى، ألا ترى إلى قول عمر في الحديث الأول: هذا نصيبكم أهل البيت من الخمس، فجعله نصيباً لهم، ولم يشترط الفقر، فدل على ما نقول(1) من أن ذلك السهم لهم، وأنه لا معتبر فيه بالفقر، ولا بالغنى، ثم قول العباس لعمر: ((لا أنعمن في الذي لنا))، وقوله: ((لقد نزعت منا اليوم شيئاً لا يرجع إلينا))، فكان قوله في ذلك كقول عمر في أن ذلك نصيب لهم من غير اشتراط الفقر، وقوله لعمر حين قال تصديقاً له فيما قال: من كون ذلك نصيباً لأهل البيت عليهم السلام، وقول علي للعباس ألسنا أحق مَنْ رَفَّق بالمؤمنين(2)، وشفع أمير المؤمنين يدل على ذلك، وأن عمر صرف ما صرف عنهم بعد ما شفع إليهم، ووقعت منهم الإجابة، وقوله عليه السلام: ((ولاني عمر حقنا من الخمس))، دل على أنَّه حقهم، وكذلك قول عمر: ((هذا حقكم قد عزلناه)).
يؤكد ذلك قول علي عليه السلام: ((إن اللّه حرم الصدقة على أهل بيته، فضرب لهم مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سهماً من الخمس عوضاً عما حرم عليهم)) [و] يدل على ذلك، وعلى أنَّه مبقي لهم ما بقي تحريم الصدقة، وهو باق إلى التناد؛ لأنَّه عليه السلام أخبر أنَّه جعله عوضاً منه، وكذلك قول ابن عباس حين سأله نجدة عن ذلك، إنَّه لنا مثل قولهم في جميع ما ذكرناه.
فلما أجمع عليه هؤلاء الأعيان من الصحابة، ولم يحفظ فيه خلافه من غيرهم صار ذلك إجماعاً لا يسمع خلافه.
__________
(1) ـ في (أ): يقول.
(2) ـ في (أ): المؤمنين.(34/20)
ثم يحقق ذلك قول علي عليه السلام، قلت: يا رسول الله، إن رأيت أن توليني حقنا من الخمس، فأقسمه في حياتك حتى لا ينازعنيه أحد بعد وفاتك، فافعل، ففعل ذلك، ألا ترى أن علياً عليه السلام ادعى بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه حقهم من الخمس، وأنه يريد أن لا يُنَازَع فيه بعد موته، فقرره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك فجرى مجرى أن يقول هو حقكم، ولا يجب أن تُنَازَعوا فيه بعدي.
فإن قيل: فابن عباس يذكر أن عمر دعانا إلى رأيه في ذلك، لتنكح(1) به أيمنا، وتقضى به غراماتنا، فأبينا، فدل ذلك على أن رأي عمر فيه كان خلاف رأيهم.
قيل له: إنَّه رأى أن يتصرف عليهم فيه، ولم يذكر أنَّه رأى أن الحق لغيرهم، فما ادعيناه من الإجماع حاصل، والخلاف في أنَّه كان(2) له أن يتصرف عليهم بالولاية، أم لا.
فإن قيل: روي أن عمر، قال: إن لكم حقاً، فلا يبلغ، علمي أقليل لكم، أم كثير؟ فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرى، فأبينا عليه إلاَّ كله، فأبى أن يعطيناه كله، ففي هذا أن رأيه كان مخالفاً لرأيهم.
قيل له: هذا يدل على أنَّه وافقهم على أن حقهم ثابت، /102/ وأن الخلاف كان في المقدار، وفي هذا ما يدل على إطباقهم على ثبوت حق ذوي القربى.
فإن قيل: روي أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشكو أثر الرحى في يدها، وبلغها أنَّه أتاه سبي، فسألته خادماً، فلم يجبها إلى ذلك، وقال: ((ألا أُعَلِّمك شيئاً خيراً لك من ذلك، تكبرين اللّه سبحانه، كذا وكذا، وتهللينه كذا وكذا))، فدل ذلك على أنها لم يكن لها فيه حق مستحق.
قيل له: هذا لا يدل على ما ذكرت؛ لأنَّه لا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم استطاب نفسها لما كان بالمسلمين من الخلة، كما روي في بعض الأخبار ((لا أدع أهل الصفة تطوى بطونهم، ولا أجد ما أنفق عليهم)).
__________
(1) ـ في (أ): لينكح.
(2) ـ في نسخة: لو كان.(34/21)
ويحتمل ـ أيضاً ـ أن يكون نصيبها من الخمس لم يبلغ أن يكون خادماً.
وإذا كان الحال على ما ذكرنا، لم يدل ذلك على أنها لم تكن تستحق من الخمس شيئاً.
فإن قيل: روي عن محمد بن إسحاق، قال: سألت أبا جعفر، فقلت: أرأيت أمير المؤمنين علياً عليه السلام حيث ولي العراق كيف صنع بسهم ذوي القربى؟ قال: سلك به والله سبيل أبي بكر وعمر. قلت: كيف وأنتم تقولون ما تقولون؟ قال: أي والله ما كان أهله يصدرون إلا عن رأيه، وفي هذا أن علياً لم يعطهم سهم ذوي القربى، ولا يكون ذلك إلاَّ لأنَّه لم يره واجباً.
قيل له: قولك: سلك به سبيل أبي بكر وعمر، لا يدل على ما ذكرت؛ لأن المروي أن أبا بكر لم يبخسهم حقهم من الخمس، وروي عن علي عليه السلام فيما تقدم (من الأخبار) (1) فكان أبو بكر يعطيني حقنا من الخمس، فكنت أقسمه، وقد قيل: إن الأخماس لم تكن في زمان أبي بكر، ويجب أن يحمل ذلك على أنها كانت قليلة؛ لئلا يتناقض الخبران.
فأما عمر فلم يزل ـ أيضاً ـ يعطيهم نصيبهم من الخمس إلى آخر أيامه، ثم استطاب نفوسهم للخلة التي وجدها في المسلمين، فعلي ـ عليه السلام ـ إذا سلك سبيلهما، يجب أن يكون أعطى ذوي القربى سهمهم في بعض الأوقات، ويجب أن يكون استطاب نفوسهم بصرفه إلى المسلمين لما عرف من خلتهم في بعض الأوقات.
يدل على ذلك قول أبي جعفر: إن أهله لم يكونوا يصدرون إلاَّ عن رأيه، فنبه أن فعله لضرب من الصلاح كان عن رأي أهله ورضاهم، وهذا يدل على صحة مذهبنا دون مذهب المخالفين في هذا الباب.
فإن قيل: روي عن الحسن بن محمد بن علي عليهم السلام، أنَّه قال في سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسهم ذوي القربى: أجمع رأيهم أن جعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله، وذلك في إمارة أبي بكر وعمر.
__________
(1) ـ سقط من (ب).(34/22)
قيل له: يحتمل أن يكونوا فعلوا ذلك؛ لأنهم رأوه صلاحاً، أو بعد استطابة نفوس المستحقين لهما؛ ليكون موافقاً لسائر ما قدمناه، وهذا ما لا نأباه، على أنَّه لا بد من أن يُحمل على أن المراد بقوله: أجمع رأيهم على أن جعلوهما في الخيل والعدة في بعض الأوقات، لما روي أن أبا بكر وعمر كانا يعطيان أمير المؤمنين عليه السلام سهم ذوي القربى ليقسمه، إلى أن قال: عرضت للمسلمين خلة، على ما تقدم ذكره في الأخبار، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا، لم يكن للمخالف دليل فيما روي عن الحسن بن محمد بن علي عليهم السلام.
فإن قيل: ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى سهم ذوي القربى بني المطلب مع بني هاشم مع أنَّه لم يعط منه شيئاً بني عبد /103/ شمس، وبني نوفل، دليل على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يعط ذلك للقرابة؛ لأن قرابة بني المطلب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كقرابة بني عبد شمس، وبني نوفل.
قيل له: عندنا أن النبي لم يعط بني المطلب ما أعطاهم، على أنَّه حق لهم، وإنما صرف بعض السهم إليهم لما كان يجب من حق نصرتهم، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك برضى بني هاشم، كما فعل عمر حين رأى احتياج المسلمين إليه، أو يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص له في أن يفعل في ذلك برأيه، وليس في هذا دليل على أنَّه لم يعط بني هاشم للقرابة.
فإن قيل: قوله تعالى: {كَيْلا يَكُونَ دُوْلَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}، يدل على أن لا حظ فيه للغني.
قيل له: يحتمل أن يكون المراد به أنَّه تعالى جعل في الخمس سهماً لليتامى، وسهماً للمساكين، وسهماً لابن السبيل؛ لئلا يكون الجميع دولة بين الأغنياء.
ويحتمل أن يكون المراد به الأغنياء من ذوي القربى، ومن سائر الغانمين.
فإن قاسوه على سهم اليتامى فقالوا: إن سهم اليتامى لما ثبت أنَّه لا يعطَى إلاَّ بالفقر، فكذلك سهم ذوي القربى؛ والعلة أنَّه من سهام الخمس.(34/23)
قيل له: هذا منتقض بسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه كان يستحقه من غير شرط الفقر، على أنا نقيس سهم ذوي القربى على سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنقول: إنَّه سهم جعل عوضاً من الصدقات، فوجب أن لا يكون الفقر شرطاً في استحقاقه كسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على أن عوض الشيء هو الذي يقوم مقامه، فإذا كان تحريم الصدقات يشمل غني بني هاشم وفقيرهم، وجب أن يكون عوضه شاملاً لغني بني هاشم وفقيرهم، على أنَّه قد روي أن العباس أعطي من سهم ذوي القربى، والعباس كان معروفاً باليسار حتى روي أنَّه كان يمون عامة بني عبد المطلب.
فأما قول من يقول: إن سهم ذوي القربى كان ثابتاً في حياة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ثم بطل بموته، فقول واه، وذلك أنهم أعطوا للقرابة، والقرابة باقية، فلا معنى لإبطال السهم مع بقاء المقتضي له، وهو القرابة، على أنَّه ـ لا شك ـ إنما(1) جعل شرفاً لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فيجب أن يكون ثابتاً بعد موته، قياساً على سائر ما تشرف به من المنع من تزوج أزواجه، وتعظيم أهل بيته، وتحريم الصدقة عليهم، والعلة أنَّه تشريف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا مانع من تأبيده، على أن المسألة إجماع أهل البيت عليهم السلام، وقول أمير المؤمنين عليه السلام، وما كان كذلك فإنه عندنا حجة لا يجوز خلافه.
مسألة [في نصيب كل من الذكر والأنثى من الخمس وشرط استحقاقه]
قال: ويقسم بينهم قسماً يستوي فيه[بين] (2) الذكر والأنثى، من كان منهم، متمسكاً بالحق ونصرته، فأما من صدف عنه منهم فلا حق له فيه.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) (3) من (كتاب السير). وذهب الشافعي إلى أن للذكر مثل حظ الأنثيين.
__________
(1) ـ في (ب): مما.
(2) ـ زيادة في (أ).
(3) ـ انظر الأحكام 2/487 ـ 488، وهو بلفظ مقاب.(34/24)