وروي: أو صاع من ذرة، رواه محمد بن منصور، قال: حدثنا علي بن منذر، عن محمد بن فضيل، قال: حدثنا أبان، عن أنس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا أعطيتم صدقة الفطر، فاعطوا نصف صاع من بر أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من ذرة)).
وقلنا: أو غير ذلك مما يستنفقه المزكُّون، قياساً على ما وردت هذه النصوص فيه، بمعنى أنَّه مقتات، فكل مقتات يجوز إخراج زكاة الفطر منه، وـ أيضاً ـ لما كانت جارية مجرى المؤاساة جعلت مما يستنفقه المزكِّي يكشف ذلك أن أكثر اقتيات أهل المدينة لما كان الشعير والتمر، ورد أكثر الأخبار فيهما، ثم لما كان البر قوت عامة البلدان، ذكر ـ أيضاً ـ في عدة من الأخبار، ثم ذكر في أخبار يسيرة سائر ما يقتات في البلدان النادرة، فدل ذلك على أن المقصد فيها هو المقتات.
مسألة
قال: ويستحب أن يتناول المخرجون لها قبل إخراجها شيئاً، ثم يخرجونها قبل صلاة العيد، وليس يضيق على من أخرها إلى آخر النهار، والمستحب التعجيل.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
ووجهه أن تعجيل الإفطار فيه مستحب:
أخبرنا أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا أبو القاسم البغوي، قال: حدثنا محمد بن عبد الوهاب، قال: حدثنا مندل، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح، عن ابن عباس، قال: إن من السنة أن تطعم قبل أن تخر يوم الفطر، ولو لقمة أو تمرة)).
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يصلي حتى يفطر، ولو على شربة من ماء.(33/9)


وروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنَّه كان يفطر قبل أن يصلي صلاة العيد، فلما استحب تقديم الإفطار على صلاة العيد، استحب تقديمه على زكاة الفطر؛ لأن كل واحد منهما قربة تختض يوم الفطر، واستحب تعجيل زكاة الفطر بعد ذلك؛ لأن الواجب قد حصل بالاتفاق، فلا غرض في التأخير؛ ولأنه مسارعة إلى الخير والبر، وقد مدح اللّه تعالى قوماً بذلك، فقال عزَّ من قائل: {أَوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقَونَ}، ولم يضيق تأخيرها؛ لأن وجوبها متعلق بالنهار أجمع؛ لما روي: فرض الصدقة يوم الفطر، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أغنوهم في هذا اليوم))، فدل ذلك على أن فعلها في اليوم أجمع، ولا خلاف في جوازها أول النهار، فكذلك آخره، والمعنى أنَّه يوم الفطر.
مسألة
قال: ولا ينبغي أن تخرج زكاة الفطر إلاَّ طعاماً، فإن أعوزه أجزته القيمة.
هذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب).
والوجه في ذلك أن النص ورد بالطعام، فلا يجوز مجاوزته إلاَّ بدليل، ولا دليل، وكلما دللنا على أن القيم في الزكوات لا تجزي، فهو دليل في هذا الموضع، ويمكن أن تقاس زكاة الفطر على الأضحية في أنَّه لا خيار بينها وبين القيمة، والمعنى أنها قربة مال تختص العبد، وأجزنا القيمة إذا تعذر الطعام؛ لأنَّه لا سبيل إلى سواها؛ ولأنه قال: ((أغنوهم في هذا اليوم))، فلا بد من الإغناء، فإذا لم يكن بالمنصوص عليه عدل عنه إلى ما يقوم مقامه، ليوم الإغناء قد حصل.
ولأنا قد وجدنا في الأصول أن من لزمه حق يتجدد في المال متى لم يجد ذلك الشيء بعيه يلزمه ما يقوم مقامه، فوجب أن يكون ذلك حكم زكاة الفطر، وليس يلزم عليه الأضحية؛ لأن الأضحية غير واجبة عندنا، على أن الحق لم يتعلق في الأضحية بمجرد المال؛ لأنَّه يتعلق بإراقة الدم في الأضحية.
مسألة(33/10)


قال: ولا بأس بتفريق زكاة الواحد في الجماعة إذا اشتدت بهم الحاجة، وإلا فالمستحب أن يدفع إلى كل واحد من الفقراء ما يلزم الواحد.
وهذا منصوص عليه في (المنتخب).
ووجهه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوجب إخراج صاع من الأشياء التي ذكرناها، ولم يشترط إخراجه إلى واحد، ولا جماعة، فعلمنا أنَّه لا بأس أن يجعله في واحد إن شاء، أو في جماعة على ما يراه أصلح للفقراء، واستحببنا عند السعة أن يدفع صدقة الواحد إلى من الفقراء؛ ليكون أهنأ للفقير، وليحصل الإغناء به، امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أغنوهم هذا اليوم)).
مسألة
قال: ولا بأس أن يخرج الرجل زكاة فطرته من غير ما يأكله، والأولى مما يأكله، إلاَّ أن يعدل منه إلى ما هو أفضل منه.
نص في (المنتخب) على أن من يأكل التمر، فله العدول إلى الشعير، قال: وأحب إليَّ أن يدفع مما يأكل.
فدل ذلك على أن له العدول إلى الأدون مما يأكله.
وقال في (الأحكام) فيمن أعوزه الطعام: يخرج قيمة صاع مما يأكله، إن أحب العدول إلى قيمة أفضل الأشياء فيكون له فضيلة.
والوجه في جواز العدول إلى الأفضل والأدون بعد أن يكون الذي يخرجه من جملة المقتات هو ما:
روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من التخيير بين هذه الأجناس الستة بقوله: ((صاع من كذا، أو صاع من كذا ))، ومن المعلوم أن كل قوم يكون قوتهم جنساً من ذلك أو جنسين أو ثلاثة، ولا يجوز أن يكون الجميع أقواتاً للجميع، وقد خير صلى الله عليه وآله وسلم الجميع في تلك الأجناس، وفي الناس من يكون قوته أوسطها، فلما خير صلى الله عليه وآله وسلم في جميعها، ثبت جواز العدول عن الأفضل إلى الأدنى، وعن الأدنى إلى الأفضل.
وقلنا: إن الأحب إلينا أن لا يعدل إلى الأدون؛ لأنَّه أدخل في المواساة؛ ولأنه الأخذ بالأفضل، ولا خلاف فيه.
وقلنا: إن عدل إلى الأفضل كان أحب إلينا؛ لأنَّه أخذ بالأفضل وأبلغ في الإحسان؛ ولأنه أعلى الواجبين.
مسألة(33/11)


قال: ولا يلزم الرجل إخراجها عن الجنين، وهي تلزم من كان معه يوم الفطر قوت عشرة أيام فما فوقه، فأما من لم يملك ذلك يوم الفطر فلا شيء عليه، وإن جاز عليه يوم الفطر، وهو معدم، ثم أيسر فال شيء عليه.
وجميع ذلك منصوص عليه في (المنتخب).
قلنا: إن الجنين لا يخرج عنه زكاة الفطر؛ لأنَّه في حكم عضو من أعضاء الأم، وبعض من أبعاضها؛ لأنَّه داخل في أحكام الأم في حياتها ومماتها، ما لم يعرض أمر يقتضي خلافه، وكذلك إن أسقطته ميتاً لم يغسل، ولم يصل عليه، ولم يفرد بدية كاملة، وإنما يوارى بعض من أبعاضها لو سقط، فلما وجدنا حاله هذه، قلنا: إنَّه لا يجب أن تخرج عنه زكاة الفطر، كما لا يخرج عن سائر أبعاضها.
فأما من يلزمه زكاة الفطر ففيه خلاف لأبي حنيفة من وجه، وللشافعي من وجه؛ لأن أبا حنيفة يذهب إلى أنها لا تلزم، إلاَّ من كان له مائتا درهم بعد الدار والأثاث، وما لا يستغنى عنه. وقال الشافعي: إنها تلزم من كان له قوت يومه وزيادة صاع يخرجه.
والدليل على أنَّه لا اعتبار بالنصاب في زكاة الفطر: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فعوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق إلاَّ صدقة الفطر))،، فلم يعلقه بالنصاب، ولم يستثن منه الفقير من الغني.
وروي: فرض رسول اللّه صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير. ولم يشترط الغنى ووجوب النصاب.
وعن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((صدقة الفطر على المرء المسلم يخرجها عن نفسه، وعن من هو في عياله))، ولم يشترط النصاب، فكل ذلك يدل على صحة مات نذهب إليه.
فإن قيل: تختص هذه الأخبار بما روي عنه: ((في فقرائهم))، فبين أنها مأخوذة من الأغنياء.
قيل له: هذه الصدقة مخصوصة تلزم الفقراء، بدلالة ما:(33/12)


أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ثعلبة بن أبي صعير، عن أبيه، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ((أدوا زكاة الفطرة عن كل إنسان، صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثى، غني أو فقير))، وفي بعض الحديث: (( أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم، فيرد اللّه عليه خيراً مما أعطى))، فصرح رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بأنها تلزم الفقراء، على أن أبا حنيفة يذهب إلى أن من معه عشر باذنجانات يلزم خراج واحدة منها، فلم يجب أن يمتنع من وجوب إخراج زكاة الفطر لمن له قوت عشرة أيام.
وفيه من طريق النظر أنَّه حق لا يزداد بزيادة المال، فوجب أن لا يراعي فيه الغني، قياساً على كفارة اليمين وفدية الذى، وسائر الكفارات.
فأما ما يدل على أنها لا تلزم من لم يجد إلاَّ قوت يومه وزيادة صاع: قول اللّه تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}، وليس في البسط أظهر من أن يكون الإنسان يأكل ويخرج باقي ما عنده حتى لا يبقى له منه شيء، فيقعد كما قال اللّه {مَلُوماً مَحْسُوراً}.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث رواه أبو بكر الجصاص: ((إنما الصدقة عن ظهر غنى))، فهذا يمنع وجوبها على من هذه صفته؛ لأن الصدقة المعروفة بالألف واللام تقتضي الجنس، على أنَّه لا بد من الفرق بين من تلزمه زكاة الفطر وبين من لا تلزمه، فكان أقرب إلى الأصول ما وجد مثله في الأصول، وقد وجدنا في أكثر الأصول الفرق في عشرة كأقل المهر وأقل ما يقطع فيه وأقل الإقامة، وأقل الطهر، فكان الرجوع إليه أولى. على أنه مقيس على سائر الصدقات في أن المأخوذ يجب أن يكون يسيراً من كثير؛ بعلة أنها صدقة فرضت ابتداء.(33/13)

131 / 138
ع
En
A+
A-