فإن قيل: مؤنتها من جنس مؤنة الأجير، فلا يجب أن تكون بمؤنتها معتبرة في زكاة الفطر، كما أنَّه لا معتبر بمؤنة الأجير.
قيل له: ليس الأمر على ما ذكرت؛ لأن ما يدفعه المستأجر إلى الأجير أجرة مقدورة، وليس كذلك مؤنة المرأة؛ لأنها تجب بحسب اليسار والإعسار، فهي من جنس مؤنة الأب الفقير والولد الصغير.
ويمكن أن تقاس المرأة على أم الولد؛ بعلة أنَّه يحل وطؤها، فكل من حل له وطؤها، لزمته زكاة الفطر عنها، وترجح قياساتنا باستنادها إلى قوله عزَّ وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}، وإلى سائر ما ذكرنا من النصوص، ولا ينتقض بالأمة الذمية؛ لأن وطأها لا يحل للمسلم.
مسألة
قال: ووجوبها من أول ساعة من يوم الفطر.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام). وهو قول أبي حنيفة. والشافعي يخالف فيه، ويقول: إنها تجب عند غروب الشمس ليلة الفطر.
والأصل فيه ما:
رواه أبو داود في السنن يرفعه إلى موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بزكاة الفطر تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، والأمر يقتضي الوجوب، وهو متعلق بنهار الفطر، وأوله أول ساعة منه.
وروى محمد بن منصور، عن علي بن منذر، عن وكيع، عن أبي معشر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: فرض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صدقة الفطر، وقال: ((أغنوهم في اليوم))، فعلق الإغناء باليوم، فدل على تعلق الوجوب به.
وروي عن ابن عمر، أنَّه قال: فرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقة الفطر من رمضان، والفطر من رمضان إذا أطلق، عقل به يوم الفطر دون ليله، يدل على ذلك ما:
روي عن عمر أنَّه قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صيام يومين، يوم فطركم من صيامكم، ويوم تأكلون فيه لحم نسككم، فأخبر أنَّه يوم فطرنا من صيامنا.
فإن قيل: الفطر يقع بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان.(33/4)
قيل له: الفطر يقع في هذا الوقت، كما يقع قبله في مثل هذا الوقت، وهذا مما لا ينازع فيه، إلاَّ ما قلنا: إن الفطر من رمضان إلاَّ أطلق على يوم الفطر من جهة العرف، فوجب أن يحمل الخبر عليه، على أن الفطر لما أضيف إلى اليوم، دل على أن الفطر هو ما يقع فيه كان أنَّه لما أضيفت الجمعة والنحر إلى اليوم، كانت الجمعة ما يقع فيه، وكذلك النحر، فوجب أن يكون الفطر كذلك، وزكاة الفطر، قياساً على الأضحية؛ بعلة أنها قربة مال تختص العيد، فوجب أن يكون وقتها نهار العيد دون ليله، وقياساً على صلاة العيد؛ بعلة أنها قربة تختص العيد، فوجب أن لا تكون ليلة العيد وقتاً لوجوبها.
فإن قيل: إنها جبران للصوم، فيجب أن يكون سبيله سبيل سجدتي السهو في أنهما يليان الصلاة.
قيل له: لسنا نسلم أنها جبران للصوم، ألا ترى أنها تخرج عن الطفل، وعن النفساء التي لم تصم شيئاً منه، وكذلك عن العليل الذي لم يصم منه شيئاً، على أن الجبران ليس يمتنع أن يتراخى وقت عما جبر، ألا ترى أن صوم سبعة أيام التي هي بدل من هدي المتمتع تكون بعد الرجوع إلى الأهل، وهو جبران للحج؟ على أن الشافعي يرى أن سجدتي السهو قبل التسليم، فكان يجب ـ على أصله ـ أن يكون وجوبها من قبل غروب الشمس من آخر يوم من رمضان، وهذا ما لا يقول به.
مسألة
قال: وهي صاع من بر.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام) و(المنتخب). وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: نصف صاع من بر.
والأصل فيه ما:(33/5)
أخبرنا به أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا يزيد بن سنان، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا داود بن قيس، عن عياض بن عبد عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد، قال: كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول اللّه وبعده، إما صاعاً من طعام، وإما صاعاً من تمر، وإما صاعاً من شعير، وإما صاعاً من زبيب، وإما صاعاً من إقط، فلم نزل على ذلك حتى قدم معاوية حاجاً أو معتمراً، فقال: أدوا مدين من سمراء الشام، تعدل صاعاً من شعير.
وأخبرنا المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا الوهبي، قال: حدثنا إسحاق بن عبد الله بن عبيد اللّه بن عثمان بن عياض، عن عياض بن أبي عبد الله، قال: سمعت أبا سعيد وهو يسأل عن صدقة الفطر، فقال: لا أخرج إلاَّ ما كنت أخرج على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من إقط، فقال له رجل: أو مدين من قمح؟ قال: لا، تلك قيمة معاوية، لا أقبلها، ولا أعمل بها.
فدل هذان الخبران على أن المعمول به على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، كان إخراج صاع من بر، وأن معاوية هو الذي رده إلى نصف صاع.
وأخبرنا أبو بكر المقرئ، قال: حدثنا الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصدقة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو عبد صاعاً من تمر، قال: فعدله الناس بمدين من حنطة، فقد بين ابن عمر أن هذا مما عدله الناس، وهذا قريب مما ذكره أبو سعيد أنَّه قيمة معاوية، إلاَّ أن ابن عمر لم يذكر معاوية.(33/6)
وروى أبو داود في السنن بإسناده عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان الناس يخرجون صدقة الفطر على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، فلما كان في أيام عمر وكثرت الحنطة، جعلها عمر نصف صاع من حنطة، مكان صاع ممن تلك الشيئان، فحقق أن ذلك رأي من عمر، ولو كان ذلك محفوظاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن لإيراده إلى عمر وجه.
وأخبرنا أبو العباس الحسني، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: حدثنا محمد بن عزيز الاُبليِّ، قال: حدثنا عقيل، عن عتبة بن عبد اللّه بن مسعود، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الحارث الأعور، قال: سمعت علياً عليه السلام يأمر بزكاة الفطر فيقول: ((هي صاع من تمر، أو صاع من شعير، أو صاع من حنطة، أو سلت أو صاع من زبيب)).
فإن قيل: وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبار، فيها: أو نصف صاع من بر، منها: حديث ابن عمر. وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وحديث ابن عباس.
قيل له: قد قيل إن هذه الأخبار ضعيفة، على أنها متأولة ومحمولة على أن المراد بها حال الضرورة، وعلى سبيل التقويم؛ لأن الرجوع إلى القيمة فيها عندنا جائز للضرورة.
فإن قيل: فنحن ـ أيضاً ـ نتأول أخباركم، ونقول: إن الواجب من البر نصف صاع، والنصف الآخرة تطوع، فليس استعمالكم أولى من استعمالنا.(33/7)
قيل له: استعمالنا أولى؛ لأنه يتضمن زيادة شرع، واحتياطاً للفقراء، والأصول تشهد لنا؛ لأن سائر أحكام الصدقات يسوَّى فيها بين حكم البر والشعير، وكذلك أحكام البيوع، والقياس يشهد لنا، وهو أنَّه لا خلاف أن الواجب في زكاة الفطر صاع من شعير، أو صاع من تمر، فكذلك البر، والمعنى أنَّه مقتات يخرج عن زكاة الفطر، لا على سبيل البدل، فوجب أن لا يجزي أقل من صاع، وـ أيضاً ـ أبو يوسف ومحمد يوافقانا على أن أقل المخرج من صدقة البر لا يجوز أن يكون أقل من المخرج من صدقة التمر والشعير في العشور، فوجب أن يكون ذلك حكمه في صدقة الفطر، والمعنى أن كل واحد منهما صدقة وجبت ابتداء لا على سبيل البدل، أو يقال لجميع من يخالف: إن المأخوذ من البر بصدقة العشور مثل المأخوذ من الشعير والتمر، فوجب ذلك في صدقة الفطر، للعلة التي تقدمت.
مسألة
قال: أو صاع من تمر، أو صاع من شعير، أو صاع من ذرة، أو صاع من إقط لأصحاب الإقط، أو صاع من زبيب، أو غير ذلك مما يستنفقه المزكُّون.
وهذا منصوص عليه في (الأحكام).
ونص ـ أيضاً ـ في (المنتخب) على هذه الأجناس الخمسة.
والأصل فيه هذه الأخبار التي تقدمت.
ومنها ما:
أخبرنا به أبو الحسين البروجردي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عمر الدينوري، قال: حدثنا أبو قلابة الرقاشي، عن محمد بن خالد بن عثمان، قال: حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: ((زكاة الفطر صاع من شعير، أو صاع من زبيب، أو صاع من تمر، أو صاع من إقط))، فنص على هذه الأجناس الأربعة، وعلى أن الواجب من كل واحد منهما صاع.
اختلفت الرواية عن أبي حنيفة في الزبيب، فروي صاع، وروي نصف صاع.
وما ذكرناه من إيجاب صاع من البر، يوجب صاعاً من الزبيب، على أني لم أحفظ عن أحد أنَّه روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصف صاع من زبيب، وروي صاع منه، فسقط قول من قال: نصف صاع من زبيب.(33/8)